قد يتفق الجميع معي، أو أتفق مع الجميع، على أن البحث في الموسيقى المتعلقة بالشعر، وما يكونه الشعر بالذات، لهو من المعضلات الكبرى، كما هو ملموس لدى بني جلدة ( الشعر)، والذين يختلفون فيما بينهم، من خلال تنوع أذواقهم، ومصادر ثقافتهم التي تملأ عليهم عالمهم الروحي، أو الذاتي، والأكثر من ذلك، من خلال اختلاف وجهات نظر، تفتقد إلى الكثير من المداميك التي تبرز أهلية المعنيين بما ينهمُّون به، ليس من باب رميهم بالجهل، أوعنونة أمية وعي الموسيقى الشعرية عندهم، وإنما لأن لدى هؤلاء مرجعيات ذاتية، أو شفاهية، أو اعتبارية، لم يجر التعمق فيها، حيث أن في وسع أي كان، أن يؤكد موسيقية ما يأتي به، باعتباره شعراً، وهو مصيب في ذلك، وأن هذا اليقين الموسيقي النفسي، يحتاج إلى تبصرة بالحجج التي يستند إليها كل من هؤلاء، ولعلي في مادتي هذه، لا أقوم بتنظيرشعري، وفي هذا الحيز المحدود، وإنما سأمارس مقاربة أوسع، كما يشفع لي وعي الذاتي، لموسيقى الشعر بالذات: كردياً، ومن خلال نماذج شعرية، سواء كانت مكتوبة بالكردية، أو بالعربية، والرابط الوحيد بين هذه وتلك، هو محاولة إبراز وشائج القربى في الإيقاع، إيقاع موسيقى الشعر، دون أن أمنح الوزن، تلك السلطة التي تفصل بين ما يستحق أن يسمى شعراً، ولا يستحق ذلك من خلال الوزن هذا، وإن كنت سأورد نماذج للتوضيح، وللدرس، وحتى للمقارنة الضمنية، وهو، بدوره يشكل إجراء يستهدف مكاشفة الحراك الموسيقي في الشعر، وإن غاب ما ما يسمى بالوزن، أو القافية ذات الصيت التاريخي التليد( عصا الراعي التي يهش بها على قطيع كلماته الموزعة بين شطري بيته : صدراً وعجزاً، وفق مسافات، وتوازنات متتابعة).
وهذا المبحث، ربما كان ذاتياً، أو بناء على متابعة، أو تلبية لطلب ملح هنا وهنا، وربما تأكيد ود لطالب رأي في هذا المضمار العتيد مقاماً، أو من خلال ما هو مقروء في نطاق الشعر، والشعر الكردي كنموذج حي، أو لوجود هواجس معاشة من الداخل، داخل دهليز الثقافة الكردية، ووعي الذاثقة هذه ذاتياً، وصلة كل ذلك، بالأفق الجمالي لهذا الجانب الفاعل في وجداناتنا، كما هو المشهود له، في المناسبات: فرصتنا الأكبر للتلاقي، وما تطرحه المواقع الانترنيتية من كم كبير من النماذج المؤكّدة من جهتها نسبها الشعري، وهو كم مكموم، ملجوم موسقياً في مجمله.
خطاطة بحثية:
بوسع أي كان، من المعنيين بالشعر، أو موسيقى الشعر، وصلتها بالواقع والانسان، وراهنا، وربما خلال مدة قصيرة، إذا ما أراد البحث عن بعض المراجع التي ( تسعفه)، في مكاشفة مسائل تخص الشعر بالذات، أو ما يمكن أن يكونه الشعر، أو مصادر مباشرة تنير عليه عالمه في المشاركة القولية، أو الكتابة في جانب مما تقدم، سواء من خلال مكتبته الخاصة، أو بالإستعارة من سواه، أو عبر اللجوء إلى المكتبة وغيرها، ويكفي بالمقابل أحياناً، أن يستعين بمصادر أو مراجع واردة في الكتب المتخصصة ليزيد علماً بموضوعه، ولهذا، سأكف عن ملاحقة العناوين، وإملاء البياض هنا بإحالات مصادرية أو مراجعية، بغية التركيز أكثر على موضوعي هنا، ولكنني، ومن جانب إعلامي ليس إلا، حسبي أن أشير إلى بعض هاتيك المراجع، وهي مصادر تتحرك في الخلف، مما أكتب، للتنويه على أن المثار هنا، ليس استرسالاً قولياً، أو هوى إنشائيات فقط، طالما أن الذي أتعرض له، هو جملة نماذج شعرية مختلفة، ومن باب المقارنة أيضاً، ومقاربة ما هو موسيقي في الشعرحصراً، وكيف يمكن تذوق الموسيقى( رؤيتها، إن جاز التعبير)، وإن لم تكن موجودة، إن حِرفية المبدع هي التي تهيء القارىء لكل ذلك:
أرشيبالد مكليش: الشعر والتجربة، ترجمة: سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة: توفيق صايغ،دار اليقظة العربية، بيروت، 1963. إن قراءته عامة تشكل ثراء للمهتم بهذا المجال، ليس من باب التشيع له، وإنما، لأنه في مجمل فصوله، يقدم وجهات نظر مجتهد في المجال المذكور، في ( الوسائل المؤدية إلى المعنى- شكل المعنى)، وهما قسماه المكونان له، بفصوله الثمانية.
ت. س . اليوت : في الشعر والشعراء، ترجمة : محمد جديد، دار كنعان، دمشق، ط1، 1991، كما في ( الوظيفة الاجتماعية للشعر- موسيقى الشعر- ما هو الشعر الأدنى..).
كمال خير بك: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر" دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية"( دكوراة دولة في الآداب، من فرنسا ، سنة 1978)، والطبعة العربية الأولى 1982، بيروت، دار المشرق، وهو يشكل سيرة أدبية تاريخية وبحثية أكاديمية لافتة، في الشعر من جهات مختلفة، وبصورة خاصة، الجانب المتعلق بالعروض، والموسيقى.
عبدالواحد لؤلؤة: مدائن الوهم" شعر الحداثة والشتات" : دراسة نقدية، منشورات رياض الريس،بيروت، 2002، حيث إن ميزة هذا الكتاب اللافتة، تتمثل في ذلك الموقف الحدي والصارم والجريء كذلك، من شعر الحداثة، وما يعنيه الشعر، والأكثر تركيزاً، هو المشار إليه بالنثر، وأكثر من هذا وذاك، ( شعر الجوائز)، ومن خلال نماذج مختلفة، وهذا مهم جداً، أعني من جهة التعرف إلى العلاقة بين الشعر والجائزة المعطاة على أثره، واستحقاق ذلك.
محمد صابر عبيد: القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية " دراسة"، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، وأهمية الكتاب هذا تتأتى في تتبع مؤلفهِ لمفهوم الإيقاع وصلته بالوزن، وأثريات الموسيقى ضمناً، ومن خلال نماذج مختلفة.
عبدالعزيز موافي: قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، منشورات مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006، وأطنه كتاباً مؤثراً في مجهوده التتبعي لحركية القصيدة، وإنشائياتها الاجتماعية والفكرية والوظيفية وغيرها، ومفارقات كل من الشعر والنثر، وكيف تتجلى الموسيقى في السياق( وهذا هو الوجه الأبرز في الكتاب)، عدا عن كونه كتاباً يؤرشف لمرحلة مديدة، تعنى بالنثر، وما يكونه النثر قيمة أو مقاماً، كما في الفصل الأول، من الباب الأول( قصيدة النثر بين الحرية والضرورة)، والفصل الرابع من الباب الرابع( الإيقاع الهارب)...الخ.
أكتفي بهذه الإحالات، وأنا أستدرك ما يجب التذكير به، وهو أن الكثير مما سميت، هو عربي لغة وتوجهاً، ولكن الشأن هو عام، من ناحية المستهدف من الفصيدة، أو الشعر، أو الموسيقى المسموعة( إن جاز التعبير)، داخل المقروء الأدبي : الشعري ، تحديداً،ويعني هذا، أن قرَّاء العربية وحدهم، من يمكنهم متابعة هذا الهم الأدبي- النقدي- الفكري- الثقافي، وهم كرد هنا، قبل كل شيء، والذين يتزودون في المجال المذكور بما هو متوافر عربياً، ويزاوجون بين ثقافتين : عربية وكردية، وعلى هذا الأساس، ووفق هذا المبتغى، كان سعيي إلى الكشف عن آليات العمل في كتابة ما يكون شعراً، وباقتضاب، دون النظر في الإيقاع باعتماده الوزن أو القافية، كعلامة فارقة، أو كما يتوهم البعض، وما أكثر، لجهلهم الجانب العروضي، وثقافة العروض، أو البحور، وصلتها بالحدث الشعري، أو الموضوع المتحوَّل شعراً. مسعاي، ما يمكن تلمسه شعراً، مهما بدا المقروء في صمته، ومن خلال حضور المقومات التي تشهد على أن الحاضر المتجدد هو شعر.
وكما نوهت بداية، أوضح أكثر، ولتبيان الخطة المعتمدة، على أنني سأستشهد بنماذج شعرية مختلفة، ومن باب المقارنة، ولإعطاء الفرصة للقارىء، وللمعني في التفكير على طريقته، بأكثر من لغة، مما هو متوفر لدي، دون نسيان أن الحيّز الأكبر هو للجانب الكردي لاحقاً، سواء كان باللغة الكردية( وهذه لها الحضور الأكبر: اقتباساً)، أو بالعربية، كما هو معلوم.
إضاءة المفهوم:
لا يمكن الإجابة على أسئلة، تتطلب كتباً، لا بل مجلدات، من نوع: متى بدأ الشعر وكيف، ما هو الشعر وكيف، ما هو الشعر الحداثي في تاريخه، وتمييزه عما كلاسي، إذا راعينا التاريخ، والجانب الالتباسي في مفهوم الحداثة وصلتها بالتاريخ، وتعرضها للمتغيرات، ما الذي يوجِد الشعرالحداثي ويكوّنه، ما ذا يعني النثر، ماذا وراء عبارة : الشعر الحر( كما لو أن سواه مقيد، كما يخيَّل للبعض)، أو النثر المشعور، أين هي موسيقى الشعر، وكيف تكون الموسيقى هنا...الخ؟
لكن يمكن التوقف عند مفهوم الموسيقى، ولو قليلاً، لأن الموسيقى هذه هي عتبة رؤية، وحكَم فصل، في هذا المنحى، إنها بوصلة التحدي للشاعر إزاء ما يكتب، البعد المبارزاتي الذاتي والموضوعي نفسه، وهو يتقدم شاعراً، وما يشهده الاسم هذا من اضطراب المعنى، وصراع التسميات، أو احتدام المواجهات بين أهل الشعر، ومعهم النقاد بأهوائهم مجتمعة.
إن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو ارتباط الموسيقى بالوزن، بوجود بحر يحدد مسافات، حركات تخص الإيقاع، فقد تحدد الوزن ( بمجموعة التفعيلات التي يتألف منها البيت، وقد كان هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية)، أما الإيقاع فبوصفه ( تكراراً دورياً لوضع يمكن أن يلعب دوراً ثنائياً في تشكيل بنية القصيدة – انظر: محمد صابر عبيد، في مصدره، ص 20)، وهذا يمكن تعميمه على الشعر في اللغات الأخرى، من جهة اعتمادها على أوزان خاصة بها طبعاً،أو التذكير به إلى جانب الشعر المكتوب في لغات أحرى، أما بالنسبة للشعر الكردي، فأظنه أقرب إلى الشعر العربي، من جهة التأثر به كثيراً، حتى عروضياً، وفي الجانب الإيقاعي " الحُجُراتي" كثيراً بالمقابل، وأكثر من هذا وذاك، ما يتعلق بالجانب السماعي" الأذني"، كما لوأن السماع هو عروض الشعر الكردي، وضابطه الوزني، ومقوّم حراكه اللغوي، لدى جمهرة كبيرة من الشعراء يعتمدون الوزن والقافية، دون اعتنائهم بما يمكن قراءته ( فما يسمَع، حيث يتم ضبط الإيقاع، باعتماد النبر خفضاً وعلواً، يملأ الثغرات التي تشكل تصدعات جلية، غير الذي يُقرَأ، إذ تبرز التصدعات هذه، في مجمل ما هو مكتوب كردياً، حتى بالارتكاز إلى بحور عربية، وهو ارتكاز سماعي بدوره)، وفي هذا، جهل متتابع.
لكن الموسيقى التي يتم ربطها بالوزن، والإيقاع الذي يتداخل في تحركه خفضاً وارتفاعاً نبريين مع الوزن في ثباته العروضي غالباً ( عندما نجد في القصيدة الواحدة، حضور أكثر من بحر موسيقي، كما يسمى)، ليست ذات نسب وزني، عروضي، مقفياتي! إن هذا يعيدنا إلى الجانب التربوي: الشعائري الطقوسي التقليدي، في جعل الروح ذاتها تتجاوب مع الموسيقى هنا، بوصفها منبثة من داخل الشعر الموزون المقفى، وثمة ثقافة تتحدث هنا، وإملاءات سلطوية ثقافية تتحكم بهذا النازع الإيقاعي الموجَّه، والعملية مرهونة إلى تاريخ طويل، وصراع من داخل الثقافة.
الموسيقى تتجاوب مع لغتها، مع أي نص، يمكنه أن يكون شعراً، إذا امتلك المقومات اللازمة، وما في ذلك من اختلاف وجهات نظر لا تتوقف مواجهاتياً، ودخول مفهوم الغموض الملتبس بدوره، من أوسع أبوابه( أعني ما يكون شعراً، وهو يتبدى هنا وهناك نثراً)، حيث تتنوع الأدوات وقيافات القول الشعري في الحالة هذه، في التكثيف، وثراء المتخيل، وتداخل الرموز، وطريقة التركيب اللغوية، وموقع الجسد في الكتابة الشعري...، ليكون الإيقاع علامة فارقة للنص نفسه، مثلما أن الموسيقى تكون موشّحة له( أحيل القارىء، أو المعني هنا، إلى كتاب عبدالعزيز موافي، السالف الذكر، في الفصلين الثالث والرابع، من الباب الرابع: إيقاع القصيدة).
بوابة ضيقة جداً:
لقد ذكرت، على أن الشعر بدا إيقاعياً، وبالسماع، أي شفاهة، والشعر الكردي ما زال يصر على هذه الخصلة، وإن كان يغيِر على بعضه بعضاً( عندما يبرز شاعر يسمي نفسه حداثياً، أو أي كاتب كردي، ويعتبر ما هو مكتوب شعراً كردياً، قديماً، غير ذي نفع يُذكَر، ويكون الرد من المعتبرين أنفسهم حفدة ما كانوا حملة ثقافة كاملة بشعرهم، وحتى العهد القريب، حيث ما زلنا نشهد حضوراً جُزُرياً لهم في المحيط الهائج للمعتبرين أنفسهم عصريين- حداثيين، وفي الحالتين ثمة سوء فهم، والصحيح، هو الخلط بين زمن وآخر، بين دور ودور، بين قيمة اعتبارية لما يشكل شعراً، ونفي ذلك، بين موسيقى تتشفع بتراثها، وموسيقى تعلن تمردها، وربما عقوقها، على ما تقدم، كما لو أن بياناً صوتياً، أو حركياً من هذا النوع، يؤصل لحداثة كردية في الشعر، ويوطد الحضور الكردي في الواقع المعاش، وهو في تردي أبعاده قيمياً.
وما أذكّر به، هنا بالذات، هو أن مفهوم السماعية( السماعية تخيلاً، السماعية الحسية عموماً، السماعية كذات متماهية مع ذاتها، السماعية كجنوح لفظي، السماعية المفارقة لواقع مدروس بدقة واجبة، السماعية المفصولة عن الأرضية المؤهّلة لها لتكون في مستوى اسمها، واسمها ليس ثابتاً، مثلما هو مجيطها الجغرافي، وفضاؤها الثقافي، ومجال عملها التاريخي أيضاً)، ما زال الوثنَ اللعين الذي يصالب الكردي الموسوم، والتقدم شاعراً، يصالب يديه أمامه، أو يكون في وضع المستسلم لذلك النمط الإيقاعي الشفاهي( عودة سريعة ، اضطرارية، نكوصية، إلى السماعية الآنفة الذكر)، إن الكردي هو إانسان اللحظة السماعية تاريخياً، ومن الداخل، حتى اللحظة هذه، مع تفاوت غير ملحوظ كثيراً في النسبة، إنه بداوتي القريحة، المتجلبب باللامدني تصور ذات ِحقيقية مسلكياً، رغم أناقة ربطة العنق، وبهاء البذلة، وحتى التميز باتقان أكثر من لغة أحياناً، كما تقول انتشاراته الاسمية، أعني حضوره الشكلي، أو الهيكلي هنا وهناك.
هذا المذكَّر به، له علاقة بصلب الموضوع، بخاصية الموسيقى وحضورها الجلي، في كل ما نقول ونفعل، لا بل تكون الموسيقى مداخلَ، لمعرفة مدى عمرانية الكائن الإنسي من الداخل، وكل انزياح لها، أو جزر لها، أو حصر دلالي، هو تعريف بضحالة الذات ( انظر حول ذلك، ما أثرته في كتابي : الموسيقى عتبات المقدس والمدنس، الصادر عن مركز الإنماء الحضاري، حلب، 2005، وبدءاً، من المدخل:" ما لهذه الموسيقى" ، و" الموسيقى ذلك المجهول"...).
وقفة إطلالية:
يمكن النظر قليلاً،في كتاب الشاعر محمود صبري( Evîndarê Xemcivîn) : ( إطلالة على ميزان الشعر الكردي: de Nerînek di terazûya ristên kurdî)، وربما كان العنوان أيضاً ( نظرة في ميزان الشعر الكردي)، وهو دراسة " vekolîn"، والذي صدر سنة 1997، ثمة محاولة سبرية في هذا المضمار البحثي الموسيقي، كما يشير العنوان، وإن افتقد العنوان المذكور الدقةَ البحثية: المفهومية، وهو يستخدم ( الميزان)، بدلاً من الوزن المعروف في الشعر kêşesazî، محيلاً إلى جانبي كل من الشعر، أي القصيدة ذات الشطرين: الصدر والعجز، وضرورة تساويهما، وهذا لا يكون بإطلاق، حيث تتنوع كتابة الشعر، إن راعينا الوزن راهناً أكثر، وحتى في نصوص سالفة، لجكرخوين بالذات، في فصائد مختلفة له. كتاب صبري، وإن لم يكن مصدراً محكماً فيما نحن بصدده، إلا أنه يمثل جسراً ما، يوصلنا إلى الطرف الآخر من النهر البحثي، مما يخص مواقعية الموسيقى في الشعر كردياً.
في البداية يتحدث عن القصيدة، ومن ثم عن البيت الشعري ( يركز، كما يظهر، على الشعر الكلاسي، في شطري بيته)، وثم عن الشطرين، ولاحقاً عن الحركات والسكون ( أحيل القارىء، ومن باب المقارنة، إلى ما أورده كمال خير بك، في كتابه المعروف، حول ذلك، مع اختلاف الأمثلة، لاختلاف اللغة، ومقوماتها في حروف المد وسواها، صفحة 210).
ويوضح كل ذلك من خلال مثال شعري، مكوَّن من بيتين متساويين حركات ٍوسكنات، في الصفحة " 11"، وليس مبتغاي هنا، إظهار العلاقة بين كل من الحركة وكيف يكون رسمها، وإشكالية تثبيتها، والسكون المتناوب، مرة، أو أكثر تتالياً، وإنما إبراز بُعد إقحامي في الموضوع، سواء من ناحية التصرف بتسلسل الحروف، أو إقسار الشفاهي، أو العكس: المكتوب، للاستجابة للمرسوم تقطيعاً عروضياً، ودور النبر في هذا المقام، وحتى إشكاليته كردياً، حيث، من جهة يتشكل طبيعياً، ومن جهة ثانية، يتصرَّف به فوق طاقته، كجعل النبر المخفَّض مرتفعاً، كما هو السائد كثيراً، في المسموع من الشعر الكردي، أو حين يستحيل كتابةً.
البيتان المستشهَد بهما، ودون أن أتعرض لهما بنية ومقام جمال ِشعر، هما:
Şevreş bike ronî tu bi luks û fenerê
Maçek ji du lêvan bide ey lêv şekirê
ويقطّعهما هكذا:
Bi-ke-ro-nî-tu-bi-luk-sû- fe-ne-rê-şev-reş
Ma-çek-ji-du-lê-van-bi-de-ey-lêv-şe-ke-rê
ليقول تالياً( كما هو جلي، يتألف الشطر الأول من ثلاثة عشر مقطعاً، وكذلك الشطر الثاني من ثلاثة عشر مقطعاً. ص 12).
لقد تم تقطيع البيتين سماعياً ببساطة لافتة، ووفق هوى الأولين، والذين مازالوا محكومين بالذهنية للسماعية في تقطيع البيت، وإبراز الحركة المطلوبة، أو المخدَّمة، وكذلك السكون المعتمد: إطالة أو قصراً، وكما هو الوقف والتحرك هنا، وفعل النبر في تسويق الإيقاع اللفظي.
إن المقطع الأول، في البيت الأول، لا يقابل المقطع الأول، في البيت الثاني تساوياً، طالما أن الكلمة الأولى تتكون من حروف ستة، وحروف خمسة في الثاني، رغم تساوي التقطيع وزنياً.
إن van، تقابل nî، حيث سكونان مقابل سكون واحد، وفي الحالة هذه، يكون دور النبر جلياً، في إمالة الألف، كما لو أن الحرف هذا غير موجود.
لاحقاً، تقابل bi de ey،ما ورد في البيت الأول tu bi luk، حيث يجري ضم السين إلى û، ليستقيم الوزن.
وكذلك فإنsû، تقابل lêv، حيث يتراءى سكونان، مقابل سكون واحد،فيكون للنبر دوره التضخيمي مجدداً هنا.
أكثر مما تقدم، لا يمكن مساواة الحرف الممدود، بالحرف المخقض، أي بالحركة تحديداً، كما هو ملموس، وهذا متَّبع كثيراً في قراءة الشعر الكردي، ومن ثم تدوينه على الورق، دون ملاحظة الفارق كثيراً، حيث يفصح إجراء من هذا النوع، عن خلط كبير بين حرف العلة، والحركة، وهذايصادر على استقلالية اللغة، عندما تكون مقروءة شعراً، كما هو متّبع في الشعر العربي.
إن رجوعاً إلى الوراء، يمكننا من مكاشفة السلطة الشفاهية، تلك التي تؤسس لموسيقى الشعر، وتبيان المسافات التي تحدد العلاقات الإيقاعية للمقروء شعرياً.
لنأخذ هذا المثال من علي حريري 1010- 1078، وهو مأخوذ من ( تاريخ الأدبيات الكردية)، لقناتى كردو، وباللغة الكردية، طبعة ستوكهولم، 1983، صفحة 59.
Xalên di şibê enberî
Dêm her wek qemerî
Ez têr nabim ji menzerê
Min maçit ji xeyalê
Min qet naçî ji bîrê
Zilfêt şibê herîrê
Wê li ser be di mûnîrê
Dagirt bûn helalê
إن قراءة هذه الأبيات، تفصح عن مدى سيطرة الذائقة السماعية، وليس الإملاء السماعي، إلا امتداداً، لتلك الثقافة التي لم تتقوعد بعد، وتستقل عما هو شفاهي، وما في هذا المنحى من ارتداد عن العصر ومتطلباته، إن تم اعتماده بحلته هذه، في سياق وظيفة اللغة، وحركية الزمن، بإيقاعاتها المختلفة والمنظمة.
إن المتقدَّم به ، لحظة متابعة أمره،ينطبق على كبار الشعراء الكرد، ممن وردت أسماؤهم في الكتاب المذكور، أو في ( انطولوجيا الشعر الكردي)، وكما في حال جكرخوين وسواه.
فاصل منشّط ؟ :
أستعيد هنا الرأي الذي أورده باسيل نيكيتين، في كتابه ( الكرد" دراسة سوسيولوجية وتأريخية") والمترجم من قبل الدكتور نوري طالباني، سنة 1998، وهو يخص الألماني أوسكار مان، ومضمونه ، هو أنه يربط الأبيات الطويلة والقصيرة، وتنوع القافية، وعدم وجود الوزن أيضاً، وكذلك حالات الوقف، بالموضوع نفسه عند الكرد ( ص438)،.
وفي مكان آخر، يبدي ملاحظة، رابطاً بين السياسة والشعر ( إنهم في السياسة، شأنهم في الشعر، لم يستطيعوا أن يتجاوزوا المرحلة القبلية المبنية أساساً على الفردية وعدم الانتظام ..ص443).
هذه الملاحظة الثمينة، والتاريخية، كان يمكن الاشتغال عليها من قبله، حيث أن السائد في السياسة، هو المتلمَّس في منحاها القبلي العشائري، والذي يمنع بروز الذهنية الجامعة ثقافياً، والتي من شأنها ممارسة تقعيد العروض الكردي، إن جاز التعبير، كما فعل الفراهيدي عربياً. إن الشتات في القول الشعري، أو ما يدخل في عداد الشعر، وهو مغنَّى، من طول وقصر، ومن اختلاف في القافية، ونفي للوزن أو حضور ما له، لتكون للموسيقى حركة مختلفة..، إن كل ذلك يواجهنا بالبعد الخرائبي، لجغرافيا ثقافية مستقرة، ومن خلال نوع من التآلف الموجود، يمارس ضبطاً أكثر لما هوفونيتيكي كردياً، ويضفي على الشعر الكردي والذي ما زال الفولكلور يحتفظ بالكثير من أوابده و" قلائده"، قيمة امتياز تاريخية، تلهم الآخرين، والكرد بداية، وهم في تبعثرهم النفسي والوجداني، عدا التضاريسي، والتاريخي، حيث النهايات الكبرى، والمترافقة مع طول بيت ما، كما في ( أغاني الحرب ، مثلاً)، كما هي النهايات القصيرة، تتجاوب مع كمية الهواء الداخلة إلى الرئتين، وتعبّر عن الحالة النفسية، والمكان، وكذلك الوضعية الاجتماعية للمعنيين بالموضوع.
ولكن، وقبل كل شيء، تكون الشفاهة، عبر السماعي، من خلال مطمطمة الصوت، ورغم أنف اللغة وقواعدها في السكون والحركة، سلطة طاغوتية، تؤكد أصالتها البارعة والمخيفة، في احتواء الغالبية من الكرد، ومن الداخل، حتى وإن بدوا حداثيين بيوتاً وتخوتاً وسموتاً ( أحيل القارىء هنا، إلى أمثلة فولكلورية، جمعها جكرخوين، في كتابه : الفولكلور الكردي، ستوكهولم، طبعة 1988، وكذلك إلى أغاني عبدلو، سعيد ملا خليل، عبدالعزيز سمي، هجار علاني، سليم كورو، رفعت داري..، وأظنها متوفرة عند أصحاب محلات بيع الأشرطة...).
هنا أثبت: ما أشبه الشاعر الكردي، وهو في أوج حداثته المعتبرة، بذلك المغني المضافاتي، حيث المضافة حلت في الداخل، وهو يتصور: يتخيل الآخرين متحلقين حوله، أو يسمعون صوته، مع فارق أن المغني كان يجوّد صوتياً، بينما الشاعر، فهو يجوّد بالصوت دون التنغيم المطلوب).
لنأخذ هذه القصيدة، لسيدا جكرخوين، من الديوان الثامن ( ِaşitî)، والمنشور بعد وفاته، سنة 1985، وهي قصيدة ( Kurdo namûs e rabe)، كما كانت المرحلة تقتضي بلغتها، وطبيعة النظم اللغوي فيها، والمسئولية التي يستشعرها صاحبها:
Kurdo namûs e rabe
Ji bo me qet we nabe
Li şoreş tên kuştin
Li vir vexun şerabê
Ji bo me fidakariyê
Em dernegan vekin zû
Da brayên Îranî
Li me nekin itabê . r:49
في هذين المقطعين، ثمة إمالة لحرف الألف، في الكلمة الثانية، في البيت الأول ليستقيم الوزن، بينما ثمة كسر جلي في البيت الثالث، ووحده الصوت قادر على ملء الفراغ، ويمكن السير قرائياً مع مجمل المتبقي من المقبوس. إن الموسيقي تتبع نظام الصوت المسموع حسياً، والمودع داخل المنشور أو المطبوع على الورق، كما يظهر. والمدرك لطبيعة البحر، يعرف إنه إزاء مجزوء الرجز، مع تصرف اعتباطي بوزنه، والإيقاع بدوره متحكَّم به شفاهياً، وجكرخوين واقعاً، ليس الاستثناء هنا، لا بل ربما كان الأفضل بين الكثيرين، من متعلمي العربية، ممن اعتمدوا العروض العربي في الغالب، من خلال تأثرهم بالثقافة العربية هنا، والمستندين إلى الأذن الذائقة سماعياً.
منازلٌ منازلٌ:
نعم، نحن بصدد منازل القول الشعري، وتوجهات القول هذا، ومراتب: منازل الموسوم بالشعر، بغض النض عن الوزن، أي أنني أهتم بالوزن، طالما ينطلق صاحبه منه، لأمعن النظر: السمع بالتحديد، في الملفوظ، بحثاً عن حركية الموسيقى داخلاً، مثلما أهتم بالشعر، متجاهلاًرهان الوزن، طالما الرهان يعتمد على البنية الإيقاعية الخاصة، على تفجرات المعنى، وزخم المتخيل.
ثمة أمثلة مكاشفة لبعض مما يخص موسيقى الشعر.
المثال الأول يخص مقطعاً من قصيدة بودلير ( هارمونيا المساء Harmonie du soir):
Voici venir les temps oú vibrant sur tige
Chaque fleur s,évapore ainsi qu,un encensoir
Les sons et les parfums dans l,air du soir
Valse mélancolique et langoureux vertige
( المصدرles fleur du mal: أزهار الشر، طبعة pocket، باريس 1989، ص 71).
والترجمة المقترحة:
هاهو الوقت أقبل إذ تتهزهز
كل زهرة على ساقها وكما المبخرة تفوح
حيث الألحان والعظورطي نسيم المساء
مثل دورة الراقصة المغمومة والنشوة الواهنة
والمثال الثاني، مأخوذ من كتاب أرشيبلد مكليش السالف الذكر ( ص28- 29)، ويخص جويس:
Wind whines and whines the shingle
The crazy pierstakes groan
A sentile sea numbers each single
Slimesilvered stone
والترجمة الواردة في الكتاب هي:
الريح تنتحب وتنتحب الألواح،
وأعمدة الرصيف المجنونة تئن،
والبحر الهرم يعدُّ كل حجر
غرويّ فضي ..
ما أردت من خلال المثالين السالفين، وعبر محورة الموسيقى، هو التالي:
إن مجموعة الأبيات الواردة( بالفرنسية في الحالة الأولى، والانكليزية في الثانية)، تعتمد إيقاعاً ركيزته الوزن المعتمد في اللغتين، مثلما أن القافية تأتي في النهاية، وهي ثنائية في المثالين.
إن المتمعن في المثالي، ومن وجهة نظر شعرية، لا بد أن يتلمس روح الشعر، من خلال كثافة المنظور الإبداعي، والحراك الدلالي الضمني، فيكون الوزن لاحقاً على مزايا لغة الشعر.
إن المقروء، عبر الترجمة، لا أظنه يقلل من الحضور الموسيقي الباذخ في المثالين، حتى لو أن الوزن غائب، بفعل الترجمة، ويعني هذا، أن روح الشعر، عندما تتخلل لغة ما، تكون الموسيقى حاضرة، ولا يمكن لا للقافية، ولا للوزن، أن يؤكدا همزة الوصل الشعرية هنا.
ولعلي، باقتباسي هذين المثالي، أريد التنويه إلى الموسيقى التي تتلطف باصطحابها روح الشعر، دون اعتبار الوزن أو القافية، جواز تأكيد أو عدم تأكيد لما هو شعري هنا.
القارىء، وكما أرى، يستشعر استئناساً روحياً باللغة، وهي مترجمة، من خلال الجو المضمخ بالمتخيَّل الشعري، بانفتاح الكلمة على أفق رحب، من ناحية تتالي الدلالات وأطياف المعاني.
وثمة مثال ثالث، يتعلق بسليم بركات الشاعر والروائي الكردي، وهو يكتب بالعربية، إنه مثال مركَّب، أعني أن ثمة ما يقرَأ له موزوناً، باعتماد بحر أو أكثر، أو حالة المزج بين الموزون والمنثور، ودون القافية أحياناً، وما هو طليق، دون وزن.ومن يقرأ الأعمال الكاملة( الديوان)، يلاحظ هذا المنحى، حيث الارتكاز يظهر أكثر من خلال ( المتدارك)، وفي بعض الحالات يظهر كل من ( الكامل) و( الرمل).
في ( دينوكا..) مثلاً، حيث يتقاسم ( المتقارب) بقية القصيدة، في بناء المعلم الشعري لها.ويبدو ديوان ( الكراكي) في أهبة اللاوزن، دون إخفاء الموسيقى المنبثة من حيوية الكلمات المتدافعة:
تيتل على الهضبة
وسكون يرفع قرنيه عالياً كالتيتل... ص159.
ولنمعن النظر في هذين المثالين:
ربما ذكَّرني الورد بنفسي،
ربما ذكر بي الورد رمالاًحُزمت كالنفس
قبل أن يطلقها البحر متاريس، ويأتي بسدود... ص 219.
والمبتدَأ به في ( منعطفات ظهيرة من ريش ...):
علّق الليل،
علق الليل كقبعتك،
وناد حوذيك النهار، الواقف، في انكسار، لصق عربتك الفارغة. ص 257.
ثمة دفق من الصور، من التعبير الجسدي، بكامل هوامياته، وحالات مزج بين صور متباعدة، ولكن الموسيقى تشغل المثالين، وإنما – أيضا- الخارج عن طور البحر، أكثر إفصاحاً عن حركية الموسيقى من الداخل، فلماذا انسياب ( الرمَل) في المثال الأول، وهو محدود بموسيقاه، وتجلي صوت الموسيقى في المثال الثاني أكثر؟ ألأن ثمة انطباعاً مسبقاً من أن بركات يشحن كلماته بالموسيقى من الداخل، ويبتعد عن الوزن، ابتعاده عن سلطة متوارثة، تمارس في الشاعر نقييداً؟
أم تراه يمارس تجريباً، وربما من باب المنافحة، على أنه قادر على الاشتغال بالوزن والقافية، وفي الآن عينه، بالشعر الذي يتكاثف معنىً، بعيداً عن أي وزن أو قافية؟
بركات مقروء شعرياً، فيما لم يتقدم به موزوناً أو مقفى في بعض الحالات ( في قصيدة " البراري " ص 68، يكون ( الكامل) بحراً معتمدا)، أكثر مما هو معرَّف به شعراً موزوناً وقافية، وهو في الوقت ذاته، يبرز أكثر طلاقة رؤية، وإبحاراً في الذات الشعرية المتهادية موسيقى، كما لو أن الكلمات ملحقة بالموسيقى، وليس العكس، من داخل مدونات ( الديوان) كثيراً).
ثمة نزوع إلى الموسيقى، إلى مكاشفة مكوناتها، من خلال ضروب التتابع أو التعارضات القائمة، أو تسخير جمهرة من الرموز، لبناء القول الشعري ذي المنحى المتجاوز لأكثر من صدى متماوج.
معهم حيث تكون موسيقى الشعر:
التوقف عند مجموعة من الخيارات، في كيفية التعرض لهذا الكم الكبير من المقدَّم برسم الشعر، سواء كان باللغة الكردية( وهو الجانب الأكبر هنا)، أو باللغة العربية، دون الفصل بين موضوعها وشاعرها الكردي هنا، يتطلب التزام المزيد من التأني، بغية احتواء المزيد من نقاط القوة والضعف معاً، وهي تجلو جانب الموسيقى، وكيف تنتشر أو تنحسر في صميم البنية التكوينية للمشهد اللغوي المتشكَّل شعراً، وكذلك التوقف عند مجموعة الاختيارات الواجبة تلك التي تخص هذا الكم المعتبَر، وما يمكن لهذا الكم، أن يستجيب للمخطَّط له بحثياً.
في الحالة الأولى، أجدني إزاء نقطة ارتكاز قاعدية، تمنحني، كما هو متصوَّر لدي: رؤية الحراك الداخلي للموضوع المثار، في تنوع تردداته القاعية، وليس الظاهرية، أو المسطَّحة مقومات، ولعل إجراء كهذا، يقيم وشائج قربى تكوينية أرحب، بين الشكل والمضمون، الظاهر والباطن.
في الحالة الثانية، أجدني بالمقابل، في مواجهة تحدٍّ ، تبيّنه أجندة الموضوع، أعني مختارات القول القول الشعري، أو ما نسِب إليه بندياً ( أُخِذ بشمول مسماه)، ولائحة المختارات الكبرى، لا تمنحني استقراراً مكانياً بالتأكيد، ولا تجنبني شططاً في بعض الحالات، وأنا أحاول مقاربة هذا الصدى ( الرجيم): الموسيقى، وتأريضها ( جعلها أرضية الإقامة)، من خلال المقروء، مأخوذاً بهوىً ما، مثلما أنها لا تقصيني عن وضع تيهي، بسبب التدفق الكبير لأطياف النصوص الموجودة، وما يدخل في حومة المقايسات، أو الاقتباسات المحوَّرة، ومحدودية الأمثلة، ولا سهولة مقاومة فتنة القول السائر ، وصعوبة ربط محنة الشعر بموسيقاه التي تتجاوز سلطانية الوزن، وحكمانية القافية، وهنا، أحاول تتبع نماذج مختلفة، والتركيز على أسماء ، لم أتعرض لها في محاولات نقدية سابقة، أسماء تتلمس في ذواتها حاضرة الشعر بامتياز، وكمال الموهبة المطلة على مستقبل يشي بمغريات نجومية، كما تقول بنية نصوصهم المنتقاة اضطراراً، وحيث لا يكون ترتيب الأسماء، أو النماذج خاضعاً لمقتضى حسابي ما، إنما هندسي يخص مدى حضور الشعر، بالصيغة السالفة، ويكون التقديم والتأخير في الأسماء، أشبه بلعبة كتابية، ولكنها مرسومة عن عمد، لئلا يكون التسلسل في التقديم، ذا صلة بقيمة لافتة لهذا الاسم أو ذاك، وحده المضون، ومدى تجلي حمامة الشعر المصفقة بجناحي موسيقاها، تشير إلى بر المعنى الأخصب هنا.
ولئلا تفوتني ملاحظة اعتبارية، ومن صلب البحث، لا بد من القول ، على أن كل ما ما هووارد من شواهد، أو مقبوسات، لا تشكل لوائح ( نأديب) أو خواتم قول ( محكم)، بصدد أي اسم، فكل مثال هو دون اسمه، وإن كان يرجو مناشدة الموسوم شعراً، وإن كان يُتقَدم بأدوات نقدية مكاشفة، ولأن الإجراء هذا، يعنيني أنا، ولا يلغي أياً من المعنيين، وإن كنت في عملية المكاشفة الدلالية، أبتغي تبيان كشف الجامع المشترك بين مجموع الداخلين في اختبار المعنى المحدَّد هنا.
مثلما أشدد على مقولة أن " الترحيب" النقدي بمقبوس ما، في مثال اسمي، لا يعني أنه بات قاب قوسين أو أدنى من التحليق الحر، في فضاء الشعر الرحب المدى، ولكنه يشكل علامة مضيئة، ثَنائية، تؤكد عتقاً لذات الشاعر من وطأة اليومي، والهامشي، والضحل، مثلما أن الموقف المتشدد من مثال آخر، لا يعني أنه من جهته، لم يعد في مستطاعه التقدم بخاصية شاعر، ولكن ذلك يشكل، علامة فارقة، تستدعي تنبهاً مضاعفاً، باعتبار صاحب المثال، يتطلب مقاومة أكثر، من جهة الاعتراف بما يعتبره شعراً، وهو خلافه، وبذل المزيد من الجهد، لتحقيق نصاب شعري.
بداية أتساءل: ممن يكون البدء، أو الانطلاقة البحثية؟
ربما أشرت سابقاً، إلى أنني أتحرى هنا، جملة من "الإرشادات" المعالمية، تلك التي تكفل لي، كما أرى، تأكيداً ما، لما يلي:
ما يقدمه الجانب الوصفي، من بداهات محققة، تتشكل إثر تراكيب لا تخفي مباغتتها، والوصف، وما أكثر الوصف بقياماته العاطفية، وأهوال قياماته هنا، الوصف هذا، لعبٌ بالنار، ولهذا، يأتي التركيز على كيفية ممارسة اللعب بالنار، دون أن تحترق يدا الشاعر، إنما يضاء عالمه بها.
كيفية التوفيق بين المتعارضات، وبناء صيغ قولية، تستولد موسيقاها المرافقة، وهي متنوعة.
الجُنََح الدلالية ، تلك التي تتخلل بنية الكتابة، وعدم التدقيق فيها، على أكثر من صعيد، وما وراء معايشة الجنح هذه، في مسبارها النفسي والثقافي والتربوي كذلك.
أقتصاد اللفظ والمعنى، بحيث يتآزران، في وحدة نصية، تضمن الجهر الذاتي بموسيقى متخيَّلة فعلاً، وهذا يمكن ملاحظته، من خلال الشعور القرائي بما يمتد حسياً، لحظة التفاعل الطرفيني.
وعندما أسمي هذه النقاط، تكون إجرائية،كونها في مجموعها لا تنفصل عن بعضها بعضاً.
أنسباء الموسيقى في الشعر:
أتحدث عن الوصف الذي يُخرج القارىء، أو المستمع، من حيث المنظور الطبيعي( كما هو الممتد أمامه في الطبيعة والواقع)، فتكون الدهشة حلقة الوصل بين أي منهما، والشاعر، والوصف لا يكون مجرد اعتماد لغة الاستعارة العادية، وإنما التخلي عن التركيب اللفظي المتوارث، أو المعتاد بتركيب هو صنعة الشاعر، حيث يصعب تقليده. إنها بصمة الشاعر المتحوّلة معه، بصمتُه في تنوع آثارها: كثافة إشارة، وخفة عبارة، وتصعيد فارهٌ بالمتخيل.
مثلما أتحدث عن الحراك الحر، دون ضياع الوزن، بسبب استعمال مفردات، يصعب تقبل أي صلة فيما بينها. إننا بصدد كيمياء العلاقات اللغوية هنا، والنتيجة تجلو بهاءها، إثر كل قراءة.
وأتحدث هنا، عن الموسيقى، من خلال الكلمات التي وإن تكررت، تكون متحررة من ظلال تبعية لبعضها بعضاً، إن كل كلمة أمَّارة بحضور دلائلي مختلف، إن سحر اللقيا، هو في الهارمونيا المتحصلة من تفاعل الكلمات المستدعاة، في حالة كونها، تمثل عائلة الشعر دون خانة ثابتة.
مدارات أصوات :
في قصيدة Bihna Reyhanan … Bihna dayîka min e …) : رائحة الريحان... رائحة أمي)، لـNezîr Palo، والمنشورة في موقع ( روزافا- 2006)، يمكن رؤية الكثير من روح الموسيقى، والشعور بظل فولكلوري لا يخفى، يسمي الكثير من حضور الذائقة الأدبية الشعرية، عبر مشهد بيتي، مشهد علائقي، طرفاه الشاعر الذي يستعيد طفولته، طفولة ما، حيث يخاطب الطفل أمه، أعني يعيش قلقها، أمومتها، مثلما يجلو ارتباطها بباعثه الحياتي، والأم المفجوعة بأبيه، بزوجها، وهي تعيش لحظة حضوره المستحيل، والغياب وحده يسفر عن ولادة موسيقاه النافذة خلل الكلمات، لكن ثمة استرخاء في الدوزنة الإيقاعية داخلاً أحياناً، واستفاضة في الوصف، كما لو أن الشاعر يعيش الطفل، وهو يريد تسمية كل شيء بلاغ المشهد الحسي.
إن إيراد مقطعين، يقربنا من الكثير من حيثيات التجلي الموسيقي ضمنا:
Çendîn tu li benda bavê min dima, te destên xwe yên henekirî, di nav porê min re dibirin û te bi stran digot: de nenî nenî delalê mino nenî.
Delalê te yê biçûk dikete xewê û tu li benda vegera delalê mezin hişiyar dima.
Êzingên ardanka te hemî dişewitîn û dibûn xulî, ardanka te sardibû, lê dilê te disotiya dayê, çavên te li min bûn, û guhên te gavên bavê min dipan.
Pir caran çilpikine germ dadiriviyan ser ruyê min, ew germahiya stêrên te bûn dayê,
min digot: çima digrî dayê?
te digot: na ez bi qurban, ev xaniyê me dilopan dike..!!
Ne dilopên bana xaniyê me radiwestiyan, û ne jî dayîka min li bendemaniya hatina bavê min diwestiya.
Her rojê, te ew topreyhan a di pencereyê de avdida, te digot: bavê te ji bihna wê hezdike,
dema vegere, ez ê deynim pîşa wî, û dema razê ez ê deynim ber serî.
Her ku bavê te bi kûranî bihna topreyhanê dikêşe, dibêje: ( Subhan Alah ) çi xweşe..
ev bihn bihna bihuştê ye..!!
Her min digot: dayê va ye bihna reyhanan ji te tê, nizanim ew dikeniya…an jî digriya..!!
Ne pencereya mala me dihate girtin, û ne jî topreyhana tê de diçelmisiya.
Bihna reyhanan ji navê deyika min û ji giyanê bavê min dihereke…
الكلمات في غاية البساطة، وهذه الشافية الكريستالية في الكثير منها، هي التي تؤمّن صعود صوت موسيقى الشعر، أعني الشعر الذي يؤمّن بدوره، للموسيقى ظهوراً مرافقاً على الأقل، كون الوصف ملتزمَ حدّه نوعاً ما، ومفارقات اللغة لا تخفي لعبة السرد الوصفية، ( وأقول " نوعاً ما" لأن ثمة ما يحد من انبثاق الموسيقى هذه، ثمة ما يحول دون ولادة ما يكونه الشعر شعراً).
نلحظ منذ البداية، كيف يتحدث الشاعر، وهو متمثّل سلاسة الطفل فيه( وهو طفله وقد بات كما هو في حديثه عما كان متخيَّلاً، يتحدث عماذا؟ عن أمه، وبلسان أمه هذه، عن أبيه، إنه دفق حب ومصارحة بهذا الحب، عن يدين محنَّاويتين ( كنت تمررين يديك المحناويتين حللَ شعري)، هذا تجنٍّ على اليد وحركتها، ونشاز في المحبك الموسيقي: فاليدان تمسّدان الشعر، تمرَّران عليه، وليس بينه ( dibirin di nav porê min re)، والصحيح: ( كنت تمررين أناملك" أصابعك" المخناوية خلل شعري)، عدا عن أن اليد كاملة( حتى بداية المعصم) لا تصبَغ بالحناء، إنما الأصابع، وربما بعض من راحة اليد وبالمقابل، بعض من ظاهرها، تعبيراً عن الفرح، شعائرياُ.
والطفل الصغير الذي يستغرق في النوم، على هدهدة صوت أمه وأغنيتها، تبقى هي يقظى" سهرانة" تنتظر أباه. إن قول( تنتظرين يقظى" سهرانة" رجوع أبي)، تكون مفردة" سهرانة" مداهمة ومقحمة، أي : زائدة، إذ طالما أنها تنتظر، تكون إذاً : يقظى" سهرانة"!
وكذلك فإن ( حطب موقدك يحترق كاملاً، ويستحيل رماداً، يبرد الموقد، لكن قلبك يستعر يا أمي)، مشهد شعري لافت، لكنه، من جهة المصارحة بمكوناته، ينقلب على شعريته، بسبب إهمال المطلوب: اقتصاد الوصف، والدقة:
يكفيه قولاً( نار موقدك تخمد" تبرد") بدلاً من الجمل الثلاث التالية،( تُرى من لا يعلم أن الحطب الموجود، إن اُشٍعلَت فيه النار، لا يحترق كاملاً، ثم لا يبرد؟)،عدا عن " و"،فهي تثقل على المشهد إيماءةً، عبر تقابل: تعارض جميل، ثم لا يُكتفى بالموقد فقط . أما Êzingên، أي " الحطب" وهو هنا، لا يستحيل رماداً، إنما ardû" الحطب يتلاشى كلياً في النار، وفي الحالة تلك، ثمة تحريف،وسوء تصريف: لأن الحطب هناك، لا يستحيل رماداً، إنما يصبح أشبه بالفحم komer، إذ يُلحَظ المحترَق كاملاً، دون أن يفقد الشكل الذي كان عليه بدايةً.
في المقطع الآخر، مثلاً: عندما يقول على لسان أمه، بصدد الريحان المزروع والذي كان أبوه يحبه ( أبوك، كلما كان يشم رائحة الريحان بعمق، يقول( سبحان الله)، لكم هي رائعة، هذه الرائحة ، هي رائحة الجنة)، الشعر، يلبس دائماً قبعة الإخفاء، ويصر الشاعر كثيراً على نزعه، رغم أنه ينشد قبعة الإخفاء، كما هو ديدن نصه آنفاً: إن عليه، وهو يعبّر عن روعة الريحان شماً، أن يترك الباقي سراً شعرياً، لمتخيَّل القارىء الشعري، لذوقه، عدا عن ذلك، لا أدري من أين جيء بالعبارة الدالة على الدهشة هذه، في ورعها الديني( سبحان الله)؟ فهذه تخص تجلي مفارقة ما، وتساؤلاً، بينما الأب مندمج في الرائحة، لهذا يُكتفى بـ( الله !) ، كما يمكن تخيل ذلك بسهولة.
وفي قصيدة لجانا سيدا Cana Seyda( ماؤك وهواؤك Avûbayên te) والمنشورة بدورها حديثاً، في موقع ( روزافا)، ثمة حديث في الحب، شعف المحب الصوفي لمحبه، وهي تتحدث عمن تهواه، بلغة، لا أظن أن حيويتها الناطقة، بمعروف الشعر الجلي، لا تجهر بموسيقا المشهد التعبيري: الوصفي، إنما الداخل في نطاق الرغبة، في قول الشعر، وتعالي الموسيقى .
ثمة لعب لا يخفي مهارته، مهارة المتخيَّل، في ثنائية الانزياحات الكبرى، حيث المشهد الجسدي، كما هو المميَّز كثيراً فيما هو حداثي، هو الذي يحيل العالم إلى علاقات جسدية، ليقبل العالم إثرئذ، من فيوضات هذا الولع بعمران الجسد، بالحياة المستقاة من رغبة تسمى صراحة:
Dema dest didim te
Giyanê min kesk dibe
Û xaka di bin lingên me de
Kessssk dibe..
Dema tu werî
Ezê keziyên xwe
Vekim,
Bixûrê ji te re vêxim,
Li defan bidim
Û li ziyaretgehên awirên te
Li ber deriyên weliyên tiliyên te
Terîşên hêviyan
Girêdim..
Ezê di sêqorziyên niviştan de
Ayetên bêrîkirina xwe
Binivîsim..
Têkevim xetma şêxên sawa te
Û bi cizba pêrgîna te kevim..
Ezê te bi çavşînkan ji nezera xwedawendan
Birevînim,
Te heft caran bi zemzema mihibaniya xwe
Bişom..
Ezê te bi laşê xwe yê sotî
Bisojim..
Tu yê di buharê de werî
Dema gulhinarên min
Xwe fêrî bişkivînê
Bikin..
Dema balindeyên lêvên te
Baskên xwe li sînga min
Bigerînin..
Lê eger îsal buhar
Dereng were
Ezê ewrekî li xwe bikim
Û te bibarînim…
أوردت هذا المقبوس، تعبيراً عن رغبة، في أن يكون مجالاً للنظر للقارىء، وبغية تشكيل انطباع أكثر حركية ومعنى، ولأنني أتجاوب مع رغبة خاصة بي، في قول ما أريده هنا، ولو أنه لا يماحك الوارد في المقبوس، وإنما يبتغي مكاشفة أكثر للوجه الإيقاعي: الشعري، وهو أن المقبوس ذاك، يكاد يرتعش حياةً، خارج حدود القرطاس، كما لو أنه الشاعرة ذاتها، أو يمثلها، عبر شغف الرؤيا بميعاد الآخر، ولكنه الآخر الذي يكون الشعر ناطقاً باسمه، ولتكون العاطفة مشذبة.
إنما، وكما في المثال السابق، ولو بشكل أقل، ومن خلال العلاقة، بين المقدَّم شعراً، والمعرَّف به استعراض شعر، تكون المفارقة، مثلما تكون الموسيقى تفاوتية: صعوداً وهبوطاً مقلقين، حيث الشاعرة " تتمادى"، كما هو يخيَّل إلي، هنا وهناك، في الاسترسال، وباستحضار مناخ الفولكلوري من جهتها، والبعد الدلالي، وتحويله لصالح المستنطَق الشعري عندها، في مهب لقيا الآخر، دون وعي منها، بأن ثمة آخر" القارىء هنا" في انتظار مقول قولها الشعري بدوره، مثلما أنها بالذات، عندما تكون في حضرة" لقيا" المدنَف به، لا تروم كلاماً، بل يتوارى الكلام، حيث الجذب الشعائري، وقد أُفرِغ من حمولته الطقسية، وألبِس اللازم الشعري، الجذب يحل مقاماً هنا، أي يكون الجسد، وعبر العينين، الناطق الأكبر بمقام العشق المقدس.
بداية تقول :
عندما يمد اليد إلي
جسدي يخضرَُّ
والأرض تحت أرجلنا
تخضرررر..
ثمة توقيع للجسد هنا، وبعد ذلك، ثمة انقطاع عن العالم، فلماذا محاولة وصف الأرض، حيث يترَك أمرها لصاحب الأمر هنا ( القارىء)؟ يتعمق المعنى دون الأخير أكثر.
تُرى لو وضعت مفردة( divebe: ينفتح)، إشارة إلى الجسد، ثم يأتي التوقيع، دون " واو": الأرض تخضر، دون عبارة ( تحت أرجلنا)، إلا إذا ابتغت سيادة ما، أما كان أكثر شعرية؟
هنا لا ألزم الشاعرة، ولا غيرها، في أن تستجيب لمقترَح ما، وإنما أعبّر عن وضع شعري يخصني مكاشفة نقد، ومن خلال الموسيقى، وكيف يمكنها أن تكون أكثر تردد أصداء !
ثم لاحظوا اللغبة الشعرية التالية، والجديرة بالتصفيق الروحي:
عندما تأتي
ضقائري
سأحلها
البخور
سأشعله لكَ
الطبول سأدقها
وفي مزار نظراتك
أمام أبواب أولياء أصابعك
شرائح الآمال
سأعقدها
لكن المشكل الشعري، هو البقاء في حالة الدوران، عندما تصدق الشاعرة، أنها حلت في صميم المزار، وليس عليها إلا أن تستمر في ممارسة المزيد من الشعائر المزارية داخلاً وخارجاً، إذ يأتي المقطعات التاليان، مأخوذين بهوى الحالة الأولى، ولعلي لآ أنكر خفة الرؤيا الشعرية لدى جانا هنا، ولكنها، لا تعمل مراسلة تلفزيونية، وتشدنا إليها عبر مشهد موصوف، بلغة الشعر، بقدر ما تحاول شدنا إلى ذات المزار ، باقتضاب، ثم تدعنا هنا، وليس أن تسترسل. إن كل ما أفصحت عنه ببلاغة مكانية، يكون في عهدة ما سلف، وهذا هو الانجرار وراء شغف الذات بما هامت به، ليكون الهيام ، سبباً ما، يضعف علائق الوصل بين ممارسة الانفتاح أكثر، والإتيان بالعجائبي أكثر، حيث يمكن للموسيقى أن تتجاوب أكثر بدورها، مع تنوع المشاهد الشعرية.
أجدني في الأخير، ملزِماً بنفسي، بإيراد المقابل المقترح، للمقطعين الأخيرين، تأكيداً على أن الوارد فيهما، لا يمكثان في المكان، وإنما يرفل المكان بزهوهما كثيراً، أعني موسيقى البوح الشعري، أعني، ما يؤكده الشعر من جهة قيمومته الإيقاعية:
ستأتي في الربيع
عندما خدودي
تتعلم
التبرعم
عندما طيور شفتيك
تلف بأجنحتها
صدري
لكن عندما الربيع
يأتي السنة متأخراً
سأرتدي سحابة
وسأمطرك !
في مشهد آخر، يعتمد على الإيقاع الداخلي كثيراً ( يراهن شاعره على موسيقى النص)، من خلال الإيحاءات المنشودة، أو المتصورة، وهو مأخوذ من قصيدة للشاعر تنكزار ماريني Tengezar Marînî، وهي ( أغنية ليلة نائحة Strana şeveke giryane)، ثمة مقاومة للذات، في أن ترى أبعد من حدود الحسي، أن تمتد في تجربة المشهد المكاني، أن تقيم الفوارق بين الحسي الجسدي، والحسي الروحي، أن تؤلّب المكان على ذاته، لأن ثمة قهراً معاشاً، وربما هو مشهد قياماتي ما، ولو أنه مصغَّر، كما شهدناه ماضياً، في أكثر من مكان، والشاعر يتجاوز أحداث الليلة النائحة، فالليلة المجازية تمتد جهاتياً، والموسيقى تباشر ديمومتها من الداخل، ولكن الشاعر يأبى إلا أن يدخل في الحيّز المشهدي، ما ينسى أنه إخلال بعقد الشعر، بلبلة للهارموني من الداخل، حيث جلاء المشهد الليلاتي، يعلم المعني أنه يقظٌ بروحه، وليس بجسده:
Roj bilind bû
Bêhêz im
Asîman daket
Û ez çavên xwe vedikim.
Jiyan dikele,
daristan, bajar di nav agir de ma,
asîman di nav baranê de.
Şev hilmê dikêşe
Helbestvan hest bi pora wê dike, dirêj e,
peyv dest bi xewê dike, mîna gulek di gulwazeke camî de
kolan bêpencere man.
إن كل ما يصفه، يعني أنه يقظ، أومتنبه، فلماذا يصف نفسه على أنه ( خائر)، لماذا يصف ما هومرئي، أو يمكن ملاحظته، ويقول ( وأنا أفتح عيني)؟ هذا تدخل ، لا تبرير له، إلا إذا كان الشاعر يريد أن يؤكد لنفسه وبنفسه، على أنه هو هكذا، كون الموصوف يحدد مباشرة كيف يكون وأين هو. وربما هو قلق الشاعر إزاء الجاري، ولكن الشعر لا يريد حفل تعارف هنا . لا يريد التشابيه المركّبة ( تبدأ الكلمة بنفسها مثل وردة في أصيص بللوري..). الشاعر يراهن على النهاية، على انسداد الأفق، لتبيان هول الحدث ( الشوارع بقيت دون منافذ)، أي انسدت من الجهات كافة ! إنه بعد آخر من التفجع الشعري، وهو يُري جميله بالمقابل.
أجد نفسي إزاء نموذج آخر، لا يخفي فنيته، في التقاط اللحظة الجمالية، لقول الشعر، والسماح لموسيقى الشعر، في أن تحضر، وأن يتم تخيلها، وذلك من خلال مقبوس، من قصيدة الشاعر غمكين رمو XEMGÎN Ê REMO ، وهي ( طريق العودةÊ RÊÇA VEGER)، والمكتوبة حديثاً، كما يقول تاريخها في الأسفل، مثلما هي منشورة حديثاً في موقع ( ولاتى مه). ولكنه النموذج القلق، والذي يعيش إرثه الذاتي، في المحاورة الذاتية، وحتى بالالتفاف على الحدث الشعري المروي بأكثر من طريقة، ليكون الموضوع المعنون رهينة شروح، هي شروخ الصنعة الأدبية في بناء القصيدة، والتعبير الأمثل عن الذات، التي تسرد لذاتها حكايات منغصاتها كثيراً. ثمة مهارة لدى غمكين في افتناص الموضوع، في إدراك البث الشعري، إلا أنه، وكما يبدو لي، يعرَّف بنفسه شاعراً، ويتصرف ناثراً، أكثر مما هو مقتضى شعراً:
Min nih naskir
Ku li giravek biyanî me
Û ji destpêkê de
Min bûsle şaş kir …
Delîve ya çendî salan
Bi na bûnekê
Te wêran kir …
Li hatina xwe poşman bûm
Û rêça vegerê
Min wenda kir ….
في المقبوس المذكور، يشهر في غربة ذات، وأي مكان ربما يستحيل غربة، يكتشف ضياعاً، يجهد نفسه كثيراً في الوصف والشرح، وأظن ذلك، ليس من شيم المنطوق الشعري، ومتطلبات الموسيقى التي تشترط حضوراً، عبر فتنة الإيجاز، وإيماءات الموجَز، وكثافة المتضمَّن فيه: الآن اكتشفت
على أنني في جزيرة غريبة
ومنذ البداية
أخطأت في البوصلة
فرصة سنوات عديدة
بـ"لا" واحدة
عَدَمتها
ندمت على مجيئي
وطريق العودة
أضعتها
ما يُلاحَظ في هذا المقبوس، وقد ترجمته للتوضيح فقط، هو وجود علة سبئية في المشهد التوصيفي والشرحي، وأعني بذلك، تفكك الجسد الشعري، من خلال علة داخلة، وما يؤدي ذلك إلى هجران المشهد بالذات:
فطالما أن الشاعر اكتشف أنه في جزيرة غريبة، فإن هذا يعني، وببساطة، أن ما أورده لاحقاً، في أكثر من جملة، عبء النص على النص، فهو في جزيرة غريبة، لأنه أخطأ في البوصلة، وهو بالتالي يضيَع طريق العودة ، وهذا هلى حساب عمق المعنى، أي زخم الموسيقى.
وربما في المنحى ذاته، يسعى الشاعر عزيز غمجفين Ezîz Xemcivîn، في قصيدة تحتفي يروح الشهيد الكردي تحديداً، ومن خلال مخاطبة شهيدة كردية، تكون هي بؤرة الرهان الشعري كذلك، ومقتضى وجوب الموسيقى،وهي ( الغزالة الشهيدة Xezala Pakrewan )، وهي منشورة حديثاً، من جهتها في موقع ( روزا آفا)، نعم، ثمة رؤيا مناقبية، رؤية مأثور تاريخي، رثائي، تعظيمي لدم الشهيد، ولكن التحرك داخل فخ الشعور، لا يرصد البعيد المطل على الجهات كافة، لا يستشرف الخفاء: تيمة الشعر، بغيته، حيث التكرار ، ومن ثم الوصف الملحوظ والمقروء كثيراً تداولاً، يعيق الشاعر في تأكيد حاضر الشعر، وحضور الموسقى كصوت يرفع من صمت الكلمات، ويهبها خفة الطيران في المدى الوجداني:
Ho Xezalê..!
rewanên we doza hev dikirin,
Gule û fîşekên kînok
li hember vîna we tiştek nedikirin..!!
her dilopek xwîn
li xaka welat mûmek vêxist..
nêrgizên evînê li ser gorên we geş in..
hêsirên sêwiyan,
barîna berxikên mîjo,
û nalîna dilan ji her hêlê de
bûne tekoşîn…
Her çipikek xwîna paqij û zelal
bûye buharek..
Û her rewanekî pîroz
ji azadiyê re bûye darek…
ثمة جمالية، لها ظرافتها في البداية، ولاحقاً، ولكن ملامسة حد الانطلاق، يظهر أنها تفوّر الشاعر من الداخل، ليهبط بجناحي الشاعر فيه، إلى ضيق أفق المعنى، ويتقيد بالمباشر:
فالحديث عن الدم مطوَّلاً، والبعد الإشهاري للعنف فيه، بات تحصيل تحصيل، إلا إذا أراد الشاعر ما ليس بشعر، أن يحرك الأيادي دون القلوب الحقيقية، دون توتير الرؤية البعيدة المدى، وما يلي الدم مطوَّلاً، بدوره هوتحصيل حاصل ، بسبب المعاودة، وتقليد التقليد المقلّد بدوره، والمشهد الكارئي هو هكذا، إضافة إلى التكرار القائم، كما يقول المقطع الأخير، عدا عن كيفية تصور الآخر: العدو، وهو متمثَّل في ( الرصاص الحاقد)، وكان يكتفى إما بـ gule، أوfîşek، لأن الموضوع ليس الترادف، أو الإكثار لتأكيد اعتبار ما، وربط الرصاص، مثلاً، كما قلت ، بالحقد، لا يعبّر عن نباهة شاعر، وإنما هوانغمار بالعاطفة التالفة للشعر، لأن العدو، عدو، فلا داعي لوصفه، هو، أو ما يعتمده بما هو سلبي قيمياً، إلا إذا أراد الشاعر مجدداً، استيلاد رصاصة موازية، وهذا طعن في الشعر.
لا أتحدث عن مشاعر الشاعر، أو أمارس تسفيهاً ما، لها، بقدر ما أحاول تلمس فضاء الشعر في كلماته، تحري أثر الموسيقى التي تؤكدها طراوة الألفاظ بتراكيبها، وتعارضاتها الوامضة.
إن أكثر ما يتهدد القصيدة، وينذر الشعربما هوكارثي، هو المعتبَر داخلاً في نطاق ( بطولات وصفية)، أعني الانجرار وراء وهم التصور، على أن القول كلما تم التوسع فيه، صار المعنى أوسع نطاق رؤية، وصار في وسع الموسيقى الانطلاق عالياً، والأكثر إيلاماً لي، عندما أجدني إزاء خميرة شعرية، وقد وضعت داخل كمية كبيرة من العجين، كما هي العلاقة بين الموضوع المفتَتح بإتقان، وتتالي الومضات، منذ البداية، ثم تجلي التعثر.
وأظن مسعود خلف، مسكوناً بهاجس الشعر، ولكنه هاجس محيّر، حين يتملك عليه وعيه للألفاظ ودلالاتها، حين يستعذب اٍهاب في القول، ويخرج الظاهر، أكثر مما هو ظاهر، أي يستعجل النهار، ظناً منه، أنه يمكنه رؤية السماء بصورة أكثر.
في قصيدته ( قرية الغبار ٍ Gondê tozê) والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، نحن إزاء مشهد غباري، كما تفصح الكلمة عن مداها الأرضي، المبلبل بأهليه، ومحنة الكينونة كردياً بالتأكيد.
حيث يتوجه الشاعر مخاطباً، إلى من يعنيه أمره، من يهتم به، وهو يوغل في الوصف، إبرازاً للشعر الذي كلما خطى الشاعر إلى الأمام، تراجع الشعر شعرياً. تُرى هل يحتاج الشاعر، للكثير من المفردات ليعلم القارىء، الآخرين، أن ثمة فاجعة، كما هو وارد آنفاً؟: النعاج التي تأخرت ولادتها- كن غرباء -عن الكلمات- الآمال- عن المحبة....- عن التراب-... لإبراز المأساة.. وسواها من الكلمات الأخرى، تترادف، لتسويق الانفعالي، وفي الوقت ذاته، لإبقاء الشعري أقل مما هو معرَّف به، حيث خفوت صوت الموسيقى من الداخل.
وثمة ما يمكن التنويه إليه، باعتباره منزوع الدقة:
عندما يقول: كانوا يتحسرون على أول العام ( السنة قبل الفائتة)، وهو يستخدم (sala pêrar)، والصحيح الاكتفاء (pêrar)، فهذه تؤدي المقصود بـ( أول العام)، كما نقول (pér,pitîpér : أول أمس، قبل ثلاثة أيام )....الخ، وثمة ما يخص العلاقة بين تمثيل المفردة لما هو جمعي، إذ لا يوجد المبرر الذي يدفع بالشاعر، إلى أن يتصرف، بإضافة ( n(، أو حذفها، بصدد الدال على الجمع، لأنه يمارس إجراء مزاجياً، كما في gotina…- hêviya- darê hinara....إذ لا بد من إضافة علامة الجمع، كما تصرف في مفردات أخرى مذكورة :
Ji şovekî sor…. Sor
Ava lehiya salan diherikî
Gundiyan kirasê xwe diqetandin
Kevokên çengokirî, baskokirî.
Xweziyên xwe bi sala pêrar tanîn
Hîna tu jî ji dayik nebûye
Di sala bûna te de…
Pezê gundiyan virinî zan
Ji gotina…
Ji hêviya..
Ji hezkirinê… ji axê em biyanî bûn
Li ber dîwaran..
Pîrên me dam dikirin
Û bayê payizê pifî hişê wan dikir
Bêhemda xwe dikenîn
Bêhemda xwe digirîn
Û tenê li ber cadan … nava kolanan
Silavên reşikên pîç dijmartin
"Selam û aleykum…. Aleykum el selam"
Kesî nedigot çima darê tiwa bi tenê ne
Kesî nedigot çima darê hinara beravêtîne
وبوسعي أن أتجاوب مع الحدث، ومغ الموضوع الذي يتناول حدثاً كارثياً كهذا، ولكنني، ومن موقف المتفاعل مع الشعري، والتحليق بروح الموسيقى، أجدني مستثقلاً تهويلاً، هو موقف الشاعر الناسج للحدث، ليكون تهويلاً لصق تهويل آخر، وليكون حِداد شعر، وصمت موسيقى.
إن الشاعر أرشف أوسكان Arşev Oskan، لا يشاطر مجايله الشعري فيما اعتمده، من طريقة التذكير بحدث فجائعي، وكيفية أرشفة الحدث، وإنما، تطرَّق إلى جانب آخر، ينظّر شعراً، وبطريقة ما، لما هو معاش إيلاماً، وهو يسهب في تجسبد المعاناة، حيث الوصف لا يخفي خفته، ولكنها الخفة التي تؤخر حضور ذائقة الشعر، مثلما تعيق فعل الموسيقى في التحليق بصوتها، وذلك في قصيدة له منشورة مكتوبة حديثاً، ومنشورة حديثاً في موقع ( روزافا)، وهي تحت عنوان ( أنا ماض ٍ : Ez diçim )، إن إظهار حالات التلوع في ذات الشاعر، وهو في وطن، أو ما يفترض فيه، أنه يمثل الوطن، وما في امتداده تشخيصاً، يظل عملاً وجدانياً حصيفاً، لا يقلَّل من أهميته قيمياً، ولكنه الشعر وحده، والقدرة على مكاشفة الحراك الشعري، وعمل الموسيقى في مكاشفة بلاغة المتخيَّل، من السمات الكبرى، للإمضاء على تثبيت كينونة القصيدة: الشعر، آرشف يُمضي على الوصفي كثيراً، رغم نسبه الحداثي، ولكن السرد العلائقي الوصفي، واستحضار كم ملحوظ من المفردات الزائدة، في تعبيد طريق المعاناة، ليس بسياسة فالحة في تعزيز عنفوان الشعر من الداخل، كما هو المتردد، أو المثبَت في هذا المقبوس:
Li êşên ku bi salan hatibûn meyandin,
Ez diçim..
Ji zû ve, min dil hebû, li te guhdar bikim û li xwe bigerim.
Ji zû ve, bi binfeş û nêrgizên kenok re nekenîme
Wê bi çûna min re, ewrên buharê xwe giran bikin
Bi awazên te re, wê lêvên xaka tî, di bin wan xunavan de şil bibin.
Wê welat bibe demsaleke buharî û xwe bi me şêrîntir bike.
Wê keskesor bi awazên te re, mîna du birûyan bêne vegirtin.
Her tişt li bendî awazên te bûn, li bendî hatina min bûn.
Ez diçim û nema vedigerim!.
إن مكاشفة اقتصاد المعنى، المعنى الذي يحرّك ما يمكن الشعور به، بنوع من الخشية والخشوع معاً، سليل المعاناة، وليس من شاعر، كالذين مروا معنا، أو أتينا على ذكرهم، إلا ويكون لهذه المعاناة الاستثنائية أثر فالح، أو معمَّق في نفوسهم، والتنوع في التعبير، يظل رهان الشعر، مثلما هو رهان الموسيقى في أن تجلو للعيان الحسي : الأذني.
ولعل مجموعة الردود التي تستثيرها القصيدة، أو كتابة الشعر بالذات، تتوقف على مجموعة عوامل، تتناوب عنصر الشعر: أي نسبة الحضور الشعري في المكتوب شعراً، أو المسموع باعتباره شعراً، من خلال الموضوع، وكيفية طرقه، أو استعراض مكوناته بطريقة تتناسب والفسحة الممنوحة للشعر، وميكانيزم العمل المتعلق بالمفردات المعتمدة، ومناخ الحالة النفسية، وكيفية إقامة العلاقات بين مفردة وأخرى، ومدى جاذبية المعنى المتحصَّل فيها. أقول هذا ، وأنا أشير في هذا السياق إلى فصيدة فدوى كيلاني ( نصوص الغربة)، وبالعربية، وهي منشورة حديثاً جداً، في موقع ( ولاتى مه)، إنها نصوص غربة، وربما تكون نصوصاً تكتَب في مكان آخر، ولكنها تتعنون هكذا، كما هو المقدَّر لها من قبل الشاعرة، حيث يمكن التوقف هنيهة عند مقبوس مأخوذ من المقطع الثاني من قصيدتها، وهو يأتي بداية :
ويبقى الرماد
كما لا يقول
سفيرا
يتطاير .......هكذا
في مدائن قلبي
مشتعلا
اقمارا
على دروب الله
منذ ان نساها
ذات مصادفة
ليترك تنور امي
يذرف تفاحا في قصيدتي
قرب ارغفة الحلم النهري
وابقى بين يدي اساي
خلف الصراط المرير
منهكة البوح
الهث صوب ظلال المهابة
رحم الامنية في شهيقها الطيني
فاكهةالافول
اغدو
وانا اقدم قرابيني
ننسج حمما
نهديها
عرائس مطرية
باذخة انا في صمتي
ثمة تراكيب ، لا يمكن التجاوب معها بسهولة، دون اكتناه نوعية العلاقات بين الصور وتداعياتها.
سيكون ثمة ربط بين الرماد واستحالته سفيراً متطايراً، اشتعالاً، والقلب مدائن، وفي الأثر سيكون تنور الأم( أو من تتحدث الشاعر باسمها)، في هيئة البكَّاء، لكنه التفاح المتحصل في قصيدتها، وسرانية العلاقة بين التنور بأكثر من معنى، كما كان الرماد المتحوَّل، وصلته بالتنور فيما بعد، والمكان المدائني، ومن ثم التفاح وسر خطيئة ما، لذة محظورة، دلالية، والأرغفة وارتباطها بالتنور، والحلم طي النهر، في جريانه تاريخاً، وسيكون الإنهاك، من قبل الساردة، والتحويل الرمزي في مفهوم ( الصراط)، حيث المعاناة، وربما الإخفاق في الوصل، وتكوين ما، وبحث عن المخرج من دوامة علاقة متوترة... الخ. إنه ضغط على الكلمات، وضغط مضاعف على القارىء في تلمس الممرات بين الصور وكيفية تلاقيها ، كيفية سبك قيمة جمالية، موسيقى تتشكل، على أثر إدراك خلفية العلاقات القائمة، وما في ذلك من عبء المتابعة، من صعوبة مكاشفة الإيقاع، بسبب تنوع المرادفات عن بعد، وهي متقاربة في أداء مهمة مشتركة ( الرماد- التنور- الرغيف- الطين..الخ)، إنه غموض متعِب في بعض جلي منه، وإن كان متضمناً كشفاً برؤيا شاعرة، وإن كنت أبصر في الكتابة هنا، تتالي ألفاظ، أكثر من تآلف معنى موحد، وفي كل ذلك تكمن تجربة ذاتية، تنفتح على عالم متخيَّل، مختلَف عليه قراءة، وبالتالي اختلاف ترددات موسيقية، بحسب مدى استبصار العلاقات القائمة بين الكلمات : عائلة المقبوس الشعري هنا.
في قصيدة ريحان سرحان Reyhan Sarhan، والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، ذات الصلة بالخوف، ولكنها بشفافيتها تتجاوز مفهوم الخوف، لتحيله موضوع رؤيا شعرية، إنه ذات الخوف( الخوف : Tirs)، الذي يبدد ما بين القلوب ، ويمنع من الشعور بما هو مؤثر، يكون ثمة صراع بين حضور قائمة الألفاظ، والمعاني التي يمكن لها أن تتشكل عبر إيحاءاتها:
Evînên me jî dibin qurbana şermokiyên me
Em ditirsin ji hev re bînin ziman...
Gotina di bin ziman de
Nizanim ji kê û ji bo çi
Em ditirsin!?
Gelo ma em ji nav û hêza
Evînê ditirsin?
Em her dû jî tirsonek in!...
Tirsonekê evînê ne
إن هذا ينطبق على المقبوس من قصيدة للشاعر فتح الله حسيني ، وهي ( أضع يدي على القلب الرقيق وأضحك: Destê xwe datînim ser dilê naz û dikenim)،
وقد نشرت حديثاً في موقع ( روزآفا)، وهي تتبدى أكثر إشراقة ذات شعرية، من الداخل، عبر لعبة المفارقات، لعبة الجميع بين الكلمات، والرهان على الأبقى، فتكون الموسيقى متفعلة أكثر بدورها
Wiha ye
Jiyan ji kevirên jiyanê
Ditirs e
Û giyan ji dammar ên jiyanê
Dipirs e
Li ber wî kevir î
Kes nizan e çidib e,
Ji pêvî kevir
وحده الحجر القادر على النطق بشهادة الأبقى، الحجر الذي يحفظ الأثر، مثلما الحجر الذي يقاوم فعل الزمن فيه> وما الرهان على الحجر، إلا استفتاء الذات الشاعرة، بجعل الحجر مفوّضه في تدوين الشعري، في تمثيل الشاعر ذاته، وهو يمضي على الحجر بالذات، ومعه موسيقاه المؤكدة. ولعلي عندما أؤكد جوانب إيقاعية معينة، ومن أخلال أمثلة، من هذا النوع، فللتنويه، إلى أن الشعر لا يقال في كليته، بقدر ما يشار إليه، بقدر ما يبقي الشعر هذا ، حتى وهو جلي المعنى، كما يقول ظاهر الكلمات، الكثير من خصاله الجمالية داخلاً، وتكون موسيقاه مسموعة في صمت، في ثمالة معناه، وهذا يتوقف على مدى تحرر الشاعر من سلطة الروتين اليومي، بقدر ما يتواصل- بالمقابل- مع سلطته الذاتية، مع هاجس اليومي، مع مستجداته، ويمارس ترجمة تجلو ذاتيته الخاصة، بحيث يقف القارىء أمام مفهومه العصي على التعري، كما هو المنشود مباشرة. وكما في مشهد لافت بتراكيب صوره داخل مشهد شعري، ليس المتخيل المباشر، كان قابلته الأدبية، وإنما القدرة في وعي العلاقات القائمة بين الممكن الواقعي، والممكن الشعري، من ناحية المباغتة في التركيب، وهو يخص الشاعر حسين حبش المعروف في كتابته بالعربية، وها هو يقيم صلة وصله في الجانب الأوسع فيه، باعتماد لغته الكردية، في قصيدته ذات الغرابة في العنوان ( ثلاث حلمات : sê memik)، والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، فالبنية التركيبية تقومعلى طرح المفارقات، وإيلائها قيمة جمالية، تتبدى تدريجياً، من خلال العلاقة الخفية:
Jinek bi sê memika ye
Mirovekî serê xwe
li ser Sînga wê
Ji bîrkir bû.
ثمة وله بالأنثى، لكنه وله أهم، وأوسع بالشعر، وبقدر ما تشير الأنثى إلى هذا الوله في علاقة تتجاوز نطاق اللغة، بقدر ما يحيل الشعر الوجودَ ذاته، وفي العمق، بكائنه إليه، مموسقاً. الشاعر في الحالة هذه، لا يسأل ما إذا كان الآخر، يريد استفساراً أم لا، إنه يحاول العيش في مربع اللاتناهي، مسلّماً روحه ليقين شعر، وحده يمكّنه من تقرير مصيره شاعراً يستمر، أو لا يستحق لا الاسم المرغوب، ولا الصفة التي يطلقها على كتابته كونها شعراً، كما هو المقروء الخفي أكثر من المقروء لغة، وأعني بذلك، الشعور بأن ثمة الكثير الكثير، طي القليل القليل. وفي وضع كهذا، قد ينطلق أحدهم، تحت تأثير هاجس ذاتي، وباعتباره شاعراً، ولأنه لا يقيم روابطه المحمية بلغة الشعر، في أهبة الكلمات التي تتطلب المزيد من التأني، المزيد من الصمت الروحي لتلمس صوت الموسيقى، بلاغة المردود القيمي – الجمالي، يبرز اليومي الظاهري حائلاً دون صعود وجه الشعر بالطريقة التي يتمناها، أي يتقدم شاعراً باستمرار. أقول هذا وأنا أِشير إلى قصيدة لا تبدو حديثة في تاريخ كتابتها، وإن ظهرت حديثة نشراً، وفي موقع ( ولاتى مه)، وهي ( علمت أنك ستأتين: Min zanî bû tê bê)،للشاعر Bihrî Bênij ، وهو يشدد على بُعد كفاحي في الحياة، وكان يجب وضع العنوان هكذا( Min zanîbû ku tê bê)، كون الحدث مستقبلياً، وهذا يعني الخروج من لغة اليومي، ولكنه، وكونه ينخرط في تيار المشاعر، وربما يتصور المحيطين به، وهم يأملون منه المزيد من الوضوح، يمارس التفسير والوصف كثيراً، فطالما يعرف الشاعر أن مناضله سيكسر باب الزنزانة، لا داعي ليشير إلى تخلصه من عائق السور/ الجدار، والقيد، رغم أن مفردة ( Piçirînî) المستخدمة في الشطر الثاني من المقبوس، غير دقيقة إطلاقاً، فهي تعني ببساطة( ستمزق)، والتمزيق لا يطال السور أو الجدار أو القيد، إنما يخص التجاوز أو التحطيم، والتمزيق يتركز على القماش ومعادله. والكثير من التواليات تبعات اللحظة الأولى، وفي مضمار شعورها الذي يحيّب أمل الشاعر في بروز القصيدة: الشعر، حضور المعنى الشعري، والأكثر من ذلك، حين يكون الجانب الكفاحي هذا متركزاً على المحبوب بالذات، وما تعرَّض له من أذى واستبداد أهليين، أي أن علاقة حبية، هي التي سبب كل هذا التصعيد الاستنفاري، وهو تصعيد أفقدَ الشعر شعريته، لأن انتشار المترادفقات، هو العلامة الفارقة لوأد روح الشعر حياً.
Mi zanîbû tê derê zindana xwe bişkînê..
Mi zanîbû tê bend û qeydan biçirînî tê bê..
Di şikefteke bin erdre mabê tê bê
Min zanî bû berê te li mine …
Çimkî bê xatir xwestin ti çûyî..
Çimkî ti birin, ti dizîn ji hembêza min..
Te firotin dûriyê..
Ti veşartin ji min ti dane biyanê..
ويمكن أن أشير إلى أمثلة أخرى، ينطلق أصحابها، من تصور تقليدي، بات فولكلورياً، كما يبدو، في المشهد الشعري الكردي المتصدع اًي باعتماد القافية، كما لو أن الموسيقى حاضرة بحضورها، وأنا أورد مقبوساً لعلي كولو Elî Kolo، باسم ( ثمة يوم : Heye roj)، وهو منشورحديثاً، في موقع ( ولاتي مه)، حيث نتلمس الكثير من الخلط بين الصور، وفقدان الدقة في الكتابة، والانجرار وراء العاطفة التي لا تقيم وزناً لوزن الشعر نفسه، ولا لروح الشعر في كثافتها، وما تكونه الموسيقى، كما لو أن المزيد من الأوصاف، يحصّل المزيد من الألطاف في الشعر. إن حشد كلمات تترى في نطاق موضوع معين ( تلوعي هنا)، لا يشفع للشاعر قبل سواه، في أن يؤكد شاعريته، أن يبرزموسيقية المؤتى به، ووسمه شعرياً، وكما تقول بنية المقبوس هذه:
Silav li te kulĕ min *** Di vĕ reşaya bĕ bil
Şewqa rojĕ nemaye *** Tarî bũye weke kil
ev îna min barkirî *** hĕviyĕ min bũne kul
çîmenĕ mintevde man *** bĕ beybũn ũ bĕ sorgul
lĕ dizanim heye roj *** wĕ vegere ew şemal
çem ũ cobarũ xunav *** wĕ geş bibe
pir zelal reşî ji vir barbike *** nema dimînim bi kul
وينطبق القول السالف على نموذج آخر، حيث المطلع، رغم كلاسيته، يشهد بالمتابعة، ولكن المتابعة، تبدو ممانِعة، كون التالي، ملحَقاً بالسابق، وصفاً على وصف، أو تكراراً له بصورة ما، كما في مقبوس لسيمكو Simko، منشور حديثاً في موقع ( ولاتى مه)، وتحت عنوان كلاسي بدوره ( حديقة الفاتنات Baxê dîlbera l)، كما لو أن المزيد من التكرارات، يضفي على المشهد المتصوَّر قيمة جمالية أكثر. إن التذكير بمفردة ( الحديقة)، يكفي لاستحضار كل ما جاء لاحقاً عن جمال الحديقة: شجراً وثمراً وطيراً وبهاء منظر.
Evjî baxê dîlberaye bilbilo têde bixwîne
Rengê dara tê de şîne pirpirî her lê civîne
*********
mûm û findê perî cana li hawîr dorê ronîne
wê çi çêbe gelo carek li bexçê min jî bi xwîn
ما يتجاوز المثال الواحد:
بصدد ما أثرته سابقاً، يمكن ممارسة مقاربة أكثر، من خلال أكثر من مثال، لشاعر واحد، وكيفية يكون انبناء العالم لديه، عبر مقارنة ضمنية، بين مجموعة من الفصائد.
هنا، أتوقف عند ثلاثة نماذج متفاوتة قيمةً شعرية، ثمة نموذجان بالعربية، هما ديوان ( قوافل المطر) لأفين شكاكي Shkakî Evîn، والمنشور منذ سنة ، ونيف، والآخر، صادر حديثاً، وهو ديوان ( ابنة الجن) لشهناز شيخه، أما الديوان الثالث ، فهو بالكردية، فهو منشور بدوره حديثاً، وهو ( مهرجان الدم : Festîvala xwînê) لكرديار دريعي Kurdyar Dirê,î.
يمكن للقارىء المتتبع لحركية العلاقة بين بنية الكلمات وكيفية إقامة شعائرها الشعرية، وتميزها عن سواها، في المجالات الأخرى، وأي موسيقى تتآلف في أثرها، يمكنه أن يتلمس الكثير من حدود صدى النص الشعري، والأفق الذي تتحرك صوبه الموسيقى.
تبدو الشاعرEvîn، في متضمناتها الشعرية، شديدة التفاوت بين نص وآخر، أو قصيدة وآخرى، وهي مختلفة طولاً وقصراً، حتى ليذهب الظن بالقارىء بعيداً، إلى أن حقيقة الشاعرة، هي فيما أورته بداية، بوصفه أقرب إليها، ومنذ لحظة العنوان، وأكثر تمثيلاً ذاتياً لها، وأعني بالتفاوت، ليس الجانب الشكلي، وإنما حدود الرؤيا الشعرية، هذه التي تباغت القارىء، ومنذ أول قصيدة، بما لا يكون شعراً، وهي تعتمد القافية، كما لو أنها تعرّف بذاتها عالمة بالوزن بالمقابل، وهو أثر، مؤطَّر ليس بسوء فهم متوارث فقط، وإنما بسوء إدارة ما للمتوارث، ولخاصية الوزن ، ومدى ارتباطه بالموسيقى. في قصيدة ( عيناك)، وهي الأولى كما ذكرت تقول :
عيناك مطر غامض
العيش فيها ولادة
الوقوف أمامها
تراتيل حب وعبادة
اعذرني
إن نصبت أمامهما خياماً
لابتساماتي
لأنها منذ زمن في تشرد،
وضياع وإبادة. ص 9.
هنا يكمن وبال الأثر الشعري، إذ ما عدا أول جملتين، لا يبدو الاستقرار ميسماً للقصيدة، عدا عن الخطأ في التركيب اللغوي ( فيها: فيهما-أمامها: أمامهما)، والتكرار، فالتذكير بالولادة، يمكن أن يستثير الكثير من الصور في متخيَّل القارىء، ولكن تماهي الشاعرة مع ذاتها، مع مشاعرها المندلقة، أفقدها توازن المعنى، أو تجلي الموسيقى المنشودة، ولو نسبياً، والقافية بدورها، أضفت على النص بعداً خدمياً سلبياً، بلبل العلاقة الشعرية أكثر، كما لو أن نظماً خالصاً يتبدى هنا.
وفي المشهد الأخير، لماذا إيراد ( التشرد والضياع والإبادة) معاً، حيث مفردة( التشرد) تفي بالمعنى كثيراً، عدا عن أن مفردة ( إبادة) إقحامية اجتثاثية، وتحت إلحاح وزن متوهَّم هنا.
وهذا ما يمكن تلمسه في قصيدة ( قوافل المطر)، أي القصيدة التي تعنون الديوان بها، وخراب المعنى أقل، ولكن الهوس بالقوافي، يبرز مطيحاً بكل جمالية ممكنة:
خيم الصمت بيننا زمناً طويلاً
دون أن ينكسر
قال دون أن يتكلم:
سامحيني إن عبر طيفي مساءاتك
دون جواز سفر،
واستوطن الحزن في قصائدك
وتبختر.... الخ . ص 13.
ثمة اعتماد لقافية، في غير محلها، لعدم لزومها، لعدم وجود وزن ( بحر ما)، وكونها غير مؤدية للمطلوب ذاته، بالعكس، جاءت تثقل على المعنى.
تُرى ماذا يحدث لو جاءت البداية هكذا : الصمت خيم بيننا طويلاً طويلا؟
لا لزوم لذكر الزمن، فهو محسوب، ولا لزوم لذكر ( دون أن ينكسر)، لأن الشاعر لا تشرح ما هي فيه.
وماذا يحدث لو أنها كتبت ( قال صمته) بدلاً من ( قال دون أن يتكلم)؟
وما دور حرف جر ( في) السياق المذكور، سوى أنه يضعف ما هو إيحائي في الجملة؟
ثمة مفارقات الصور، وتناغمها، لا يُعلَم لماذا الشاعرة، لم تكتشف الصدع الكبير، بين ما أوردته سابقاً، وما هو وارد في قصائد أخرى، تشهد على شفافية ملموسة : إيقاعاً وتخيل موسيقى، كما في ( حين أراك):
لماذا حين أراكَ
تنثر على جرحي الحنين ؟
تستعير من شفاء الفجر وردة.
ونصبح عاشقين
في ضيافة المطر . ص 33.
إن هذا التفاوت الكبير، والملحوظ، بين قصيدة وأخرى، يثير الظنون، بما ليس في مصلحة الشاعرة، ولا أعنيها وحدها هنا، بل أغلبية الشعراء الكرد، من خلال قراءات لنصوص أخرى، وكيفية الكتابة في ظلها، وأخص بالتذكير، من يعرَفون عبر رصيد أنترنيتي بداية.
شهناز شيخة تبدو أكثر تناغماً مع ذاتها، وسيطرة على كلماتها التي تكون فصيدتها، وإن تجلى لجوءها إلى الغموض، مقلقاً من جهة الالتباس في المعنى، أي في المبتغى من اللعبة اللغوية، وهذا له تأثيره على البعد الإيقاعي، على التردد الموسيقي في المحصّلة.
كما في أول قصيدة ( شهرزاد)، وكيفية الحديث باسمه، من الداخل:
صرخة تتلاشى بين البحر والشفق
دموع الشمس يجلدها الغروب
شراب النار في شفة الزمن
أنا ... نورس الشرق
الراقص فوق زوبعة العذاب
زبد يهيم فوق رهبة المحيط
فوق الوجود.... الخ . ص 11.
ثمة بحث عن صور غير اعتيادية، وإن كان في التوليف، ما يستجوب المساءلة، عن مدى التصويب في التركيب، مدى اختراق المألوف، لتكون الموسيقى، في حدود المتخيَّل قيمة.
وربما ظهرت شهناز، مستجيبة لنداء روحها اليومي، أحياناً أكثر من روحها، في الجانب القصي مما هو يومي، أي : ديمومة الشعر، في قصيدة ( موت)، تقول:
هكذا... دون مقدمة
تماماً كزوبعة في الفراغ
تخترق عمق وجودي
تمضي عبر بوابة قلبي
جرحاً...
يغتال أحلامي البرئية. ص 21.
أرى أن ثمة إيقاعاً، يتلون، من خلال تردد الكلمات، بين اليومي والميتايومي: المباشر وخلافه، ويمكن توقع رنة الموسيقى عبر ممارسة شعرية من هذا النوع، ولكن، لو تم تشذيب للوارد قليلاً، لمارس القول فتنته الشعرية أكثر:
... دون مقدمة
كزوبعة في الفراغ
..........
يغتال أحلامي ..
ربما، تقديراً مني، على أن القارىء، متروك له مجال أوسع، للمضي مع ما لم تسمّه القصيدة بعد، أو أكثر، ليكون له دوره في تلوين الخفي، إثر الكلمات المنثورة على الورق هكذا .
إن مفردة ( هكذا) ذات القيمة النسخية، تطوق المتخيَّل كثيراً، وتبقي الطريق سالكاً أمام الشاعر وحده، أو الشاعر هنا، ليكون القارىء تابعاً، وتكون طاقة المتخيل أجدى، في مسارات عدة.
ففي ( عصافير الشتاء)، ثمة رونق في الكلمات، أعني تجويد في الصتعة، وحس رؤيوي بالآخر:
أحبك ..
... هكذا تقول أصابعنا
عند كل لقاء
أحبك ..
هكذا ..
يقول ..
البريق المتفجر
.. في عيوننا. ص 76.
تلعب النقاط المتتالية دورها، في التأني، أو في خلق انطباعات، كما لو أن فراغاً ما، يفصل بين بروز حالة، بوتيرة ما، وأخرى، بوتيرة أخرى، وتصور الموسيقى، في منحى إيقاع الكلمات، يتجلى من خلال توزيع الكلمات والفراغات المعمولة، ولكن ، أليس وضع ( هكذا) جانباً، يضفي على انسيابية الكلمات حراكاً دلالياً أكثر شافية ؟ إن فضاء المعنى يتعمق أكثرهنا !
في ديوان كردياردريعي، بقدر ما يختلف الوضع، يكون مساوياً لما تقدم، لأن الاختلاف هو في اللغة، وما إذا كان اعتماد مفردة دون أخرى، يجري ، بوعي جلي، بمناخاتها الدلالية، أو الوظيفية، أم لا، رغم أن هذه الصفة، موجودة، في كل ممارسة لغوية، ولكنني أتحدث، عن الكردي، حين يقيم علاقة ثقافية، شعرية، مع لغته، وكيف يؤرخ للحظة ما من حياته، بجعل لغته لغة شعر، أو حين يتحدث بلغة أخرى، وهو الكردي، كما أسلفت، ويطعَم اللغة، بحضوره شاعراً شاعراً، وهو هنا، يوشح ديوانه بالدم، وأظنه عنواناً ينز عنفاً، والمهرجان مخدَّم باسمه.
ثمة معايشة لما هو شعري، ولكنها تتطلب المزيد من التجمهر داخل الذات، التقريب بين سلسلة النسب الخاصة بما هو شعري، باعتماد كلمات تتعاقب، دون تتعاقب من ذات الشعر.
في القصيدة الأولى ( أيا ليل Hey şev)، ثمة انزياح إيقاع، تلكؤ المعنى في الربط الدلالي:
Bê denge şev
Sitêr disincirîn
Perçeyên ewran li asoy
Hin sor … Hin tarî
Di bejna şevêde
Avjeniyê dikin. R:5
نعم، ثمة حركة، لها صداها الحسي في المقبوس السالف، ولكنها حركة لا يمكنها أن تخفي ما هو حسي مختل فيها بالذات، إذ كيف تكون الغيوم ملحوظة، تغطي السماء، وتكون النجوم مشعة مرئية؟ هذا خطأ لم يفكَّر فيه، وإنما كان هناك تلبس بالحالة، وعدم مراعاة لخاصية الصور ومنطقيتها واقعاً .
كرديار، لديه رغبة داخلية، في أن يكون شاعراً، وثمة حضور لنفس الشعر، خلل كتاباته، ميل إلى الإيقاع، أو ذائقة الشعر الذي تحدده صياغة مسترسلَة من الكلمات، وإن كان في العديد العديد، مما يصيغه أطياف شعراء آخرين، وإن لم يُسموا، أي أن ثمة نوعاً من التأثر الموضوعي، وحتى التركيبي بما قدمه آخرون قبله، وهو يجهد، في أن يكون المدوَّن أثره، موسيقاه المنبثة، كما في قصيدة ( ندم : Poşmanî) ، حيث يقول :
Ji min re digot:
Tu li kube
Tê li min vegere
Dilê yekemîn
Maça yekemîn
Kî dikare ji bîr bike …?!R:82
ويمكن الإشارة إلى قصيدة، تكون أكثر تذكيراً، بصدى أصوات آخرين، حيث حضور الآخر الشعري، وإن تمت محاولة تركيبها بطريقة ما ، مختلفة، لا يمكن تجاهله، وبالتالي، تتركز الموسيقا خلف الستارة، أعني، تأخذ حركتها، من حضور موسيقي آخر.
أشير هنا إلى قصيدة ( فكرة Ramanek):
Peyalek mey
Yarek rû li ken
Tembûrek zîz
Qutyek tûtinê
Hêlînek biçûk
Besî jiyanamine
Û hinek azadî
Xweş tir dibe . R:150.
القصيدة بكاملها، تستعيد معها، ما كتبه الشاعر الكردي كوران عبدالله Goran1904- 1962، وفي قصيدة يقول فيها :
كردي .. وكيس تبغ..
حفنة زبيب.. وبندقية..
ثم صخرة..
وليأت العالم..
كل العالم
( انظر : كَوران عبدالله شاعر كردستان الخالد، إعداد: محمد علي توفيق، ط 1990، ص95).
مع الفارق الجلي، حتى في الإيقاع المتخيَّل، ومنحى الإيقاع هذا، بسبب بنية القصيدة.
كوران، يقيم في قلب العالم، وكان هذا دأبه قبل نصف قرن تقريباً، يعيش تحدياً متعدد الجبهات، وكرديار، يقيم في الداخل( وهذا ليس مقارنة، وإنما إبراز علاقة مختلفة، وكيفية ترتيبها)، ليقدَّم قدح الشراب أولاً، ومن ثم فتاة بهية، وطنبور صداح، وعلبة تبغ، وعش صغير، يكفي حياتي. وقليل من الحرية، يكون أطيب.
العبارة الأخيرة شرح يفسد الإيقاع الذي يترجم حيوية الداخل، هذا الداخل الذي يظهر لعيان القارىء ما عليه القائل.
وكان يجب البدء بالداخل أولاً، إن أردنا منطق مكان : عش صغير، وما يتضمنه.
وثمة تفهم ضرورات المكان والزمان، وأعني مكانة ( علبة تبغ) في القصيدة، وصاحبها ثمل بالشراب، وداخل في حداثة المكان، إنها غفلة طاعنة في ذات القصيدة.
وبالوسع المضي أكثر، مستعيناً بأكثر من مثال، ولكن، وكما نوَّهت، ما أردته، هو أن الشعر ولكي يكون شعراً، أن تكون موسيقاه من صميمه الروحي، يتطلب وعياً مركزاً، ليكون الصوت المسترسل صوت شاعر، وحده الإيقاع يتكفل، بتجديد معناه في الزمن، إنه الإيقاع الذي ينبثق من كليانية الجسد اليقظ للشاعرسرمدياً، وإلا فلا نامت أعين الشعراء كافة !
أقول هذا، وأنا أترك باب المثار مفتوحاً على مصراعي النقد ونقد النقد طبعاً، وإمكانية العودة لاحقاً، إنما – ربما- في مكان آخر، ولكن الذي يمكنني قوله، ومن خلال ما تقدم، هو التشديد على مفارقات العلاقة بين مدى اهتمام الكرد بالشعر، والوضع التشرذمي لهم، بأكثر من معنى، مدى تولعهم بالشعر، أكثر من أي فن قولي، كتابي آخر، حتى وهم في أمكنة متباعدة، كما لو أنهم بذلك يؤكدون ويؤكدون انتماءهم للعالم، بالطريقة هذه، هم والذين يؤكدون تجاوبهم الشعوري مع ما يقولون أو يكتبون، على أنه الشعر الشعر، ومدى تفجعهم في وضعهم الشعري المختلف.
أقول هذا، وأنا أستعيد ما أثاره الباحث السعودي عبدالله الغذامي، في كتابه ( القصيدة والنص المضاد- منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1994)، وفي فصل ( جماليات الكذب)، مبيّناً كيف أن الكذب، وكما رأت العرب، كمصطلح، يعني الشيء ونقيضه( ص 115)، لهذا تم الربط بين الشيء الأكثر جمالاً، بقدر ما يكون الأكثر إيغالاً في الكذب، وعليه أختم قولي:
والكرد بدورهم يتصرفون هكذا، وأعني به شعراءهم، وأحدد أكثر مَن أشرت إليهم، ومن يرادفوعهم بصور مختلفة، ممَّن لم أسمّهم، ومن ينفعلون مع انفعالهم، ولكنهم يستسهلون أمر الكذب، وفي الشعر هنا، كثيراً كثيراً، ربما أكثر في نصفه الآخر، سواء فيما يعتبرونه إبداعهم الذاتي، أو بتأثير قراءات أخرى، دون الكشف عن ذلك، أو كونهم لا يصرّحون بكذبهم الشعري هذا، ومدى تناقضهم في هذا المضمار، وذلك أمر، له صلة بعمق الخبرة الحياتية، بحكمة البصيرة، بشجاعة الاعتراف بالواقع الذاتي، برحابة الرؤية الروحية لمأثورهم الجماعي والفردي، ولهذا، يظل الأجمل في انتظار أكثرهم .....!!!!
وهذا المبحث، ربما كان ذاتياً، أو بناء على متابعة، أو تلبية لطلب ملح هنا وهنا، وربما تأكيد ود لطالب رأي في هذا المضمار العتيد مقاماً، أو من خلال ما هو مقروء في نطاق الشعر، والشعر الكردي كنموذج حي، أو لوجود هواجس معاشة من الداخل، داخل دهليز الثقافة الكردية، ووعي الذاثقة هذه ذاتياً، وصلة كل ذلك، بالأفق الجمالي لهذا الجانب الفاعل في وجداناتنا، كما هو المشهود له، في المناسبات: فرصتنا الأكبر للتلاقي، وما تطرحه المواقع الانترنيتية من كم كبير من النماذج المؤكّدة من جهتها نسبها الشعري، وهو كم مكموم، ملجوم موسقياً في مجمله.
خطاطة بحثية:
بوسع أي كان، من المعنيين بالشعر، أو موسيقى الشعر، وصلتها بالواقع والانسان، وراهنا، وربما خلال مدة قصيرة، إذا ما أراد البحث عن بعض المراجع التي ( تسعفه)، في مكاشفة مسائل تخص الشعر بالذات، أو ما يمكن أن يكونه الشعر، أو مصادر مباشرة تنير عليه عالمه في المشاركة القولية، أو الكتابة في جانب مما تقدم، سواء من خلال مكتبته الخاصة، أو بالإستعارة من سواه، أو عبر اللجوء إلى المكتبة وغيرها، ويكفي بالمقابل أحياناً، أن يستعين بمصادر أو مراجع واردة في الكتب المتخصصة ليزيد علماً بموضوعه، ولهذا، سأكف عن ملاحقة العناوين، وإملاء البياض هنا بإحالات مصادرية أو مراجعية، بغية التركيز أكثر على موضوعي هنا، ولكنني، ومن جانب إعلامي ليس إلا، حسبي أن أشير إلى بعض هاتيك المراجع، وهي مصادر تتحرك في الخلف، مما أكتب، للتنويه على أن المثار هنا، ليس استرسالاً قولياً، أو هوى إنشائيات فقط، طالما أن الذي أتعرض له، هو جملة نماذج شعرية مختلفة، ومن باب المقارنة أيضاً، ومقاربة ما هو موسيقي في الشعرحصراً، وكيف يمكن تذوق الموسيقى( رؤيتها، إن جاز التعبير)، وإن لم تكن موجودة، إن حِرفية المبدع هي التي تهيء القارىء لكل ذلك:
أرشيبالد مكليش: الشعر والتجربة، ترجمة: سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة: توفيق صايغ،دار اليقظة العربية، بيروت، 1963. إن قراءته عامة تشكل ثراء للمهتم بهذا المجال، ليس من باب التشيع له، وإنما، لأنه في مجمل فصوله، يقدم وجهات نظر مجتهد في المجال المذكور، في ( الوسائل المؤدية إلى المعنى- شكل المعنى)، وهما قسماه المكونان له، بفصوله الثمانية.
ت. س . اليوت : في الشعر والشعراء، ترجمة : محمد جديد، دار كنعان، دمشق، ط1، 1991، كما في ( الوظيفة الاجتماعية للشعر- موسيقى الشعر- ما هو الشعر الأدنى..).
كمال خير بك: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر" دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية"( دكوراة دولة في الآداب، من فرنسا ، سنة 1978)، والطبعة العربية الأولى 1982، بيروت، دار المشرق، وهو يشكل سيرة أدبية تاريخية وبحثية أكاديمية لافتة، في الشعر من جهات مختلفة، وبصورة خاصة، الجانب المتعلق بالعروض، والموسيقى.
عبدالواحد لؤلؤة: مدائن الوهم" شعر الحداثة والشتات" : دراسة نقدية، منشورات رياض الريس،بيروت، 2002، حيث إن ميزة هذا الكتاب اللافتة، تتمثل في ذلك الموقف الحدي والصارم والجريء كذلك، من شعر الحداثة، وما يعنيه الشعر، والأكثر تركيزاً، هو المشار إليه بالنثر، وأكثر من هذا وذاك، ( شعر الجوائز)، ومن خلال نماذج مختلفة، وهذا مهم جداً، أعني من جهة التعرف إلى العلاقة بين الشعر والجائزة المعطاة على أثره، واستحقاق ذلك.
محمد صابر عبيد: القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية " دراسة"، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، وأهمية الكتاب هذا تتأتى في تتبع مؤلفهِ لمفهوم الإيقاع وصلته بالوزن، وأثريات الموسيقى ضمناً، ومن خلال نماذج مختلفة.
عبدالعزيز موافي: قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، منشورات مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006، وأطنه كتاباً مؤثراً في مجهوده التتبعي لحركية القصيدة، وإنشائياتها الاجتماعية والفكرية والوظيفية وغيرها، ومفارقات كل من الشعر والنثر، وكيف تتجلى الموسيقى في السياق( وهذا هو الوجه الأبرز في الكتاب)، عدا عن كونه كتاباً يؤرشف لمرحلة مديدة، تعنى بالنثر، وما يكونه النثر قيمة أو مقاماً، كما في الفصل الأول، من الباب الأول( قصيدة النثر بين الحرية والضرورة)، والفصل الرابع من الباب الرابع( الإيقاع الهارب)...الخ.
أكتفي بهذه الإحالات، وأنا أستدرك ما يجب التذكير به، وهو أن الكثير مما سميت، هو عربي لغة وتوجهاً، ولكن الشأن هو عام، من ناحية المستهدف من الفصيدة، أو الشعر، أو الموسيقى المسموعة( إن جاز التعبير)، داخل المقروء الأدبي : الشعري ، تحديداً،ويعني هذا، أن قرَّاء العربية وحدهم، من يمكنهم متابعة هذا الهم الأدبي- النقدي- الفكري- الثقافي، وهم كرد هنا، قبل كل شيء، والذين يتزودون في المجال المذكور بما هو متوافر عربياً، ويزاوجون بين ثقافتين : عربية وكردية، وعلى هذا الأساس، ووفق هذا المبتغى، كان سعيي إلى الكشف عن آليات العمل في كتابة ما يكون شعراً، وباقتضاب، دون النظر في الإيقاع باعتماده الوزن أو القافية، كعلامة فارقة، أو كما يتوهم البعض، وما أكثر، لجهلهم الجانب العروضي، وثقافة العروض، أو البحور، وصلتها بالحدث الشعري، أو الموضوع المتحوَّل شعراً. مسعاي، ما يمكن تلمسه شعراً، مهما بدا المقروء في صمته، ومن خلال حضور المقومات التي تشهد على أن الحاضر المتجدد هو شعر.
وكما نوهت بداية، أوضح أكثر، ولتبيان الخطة المعتمدة، على أنني سأستشهد بنماذج شعرية مختلفة، ومن باب المقارنة، ولإعطاء الفرصة للقارىء، وللمعني في التفكير على طريقته، بأكثر من لغة، مما هو متوفر لدي، دون نسيان أن الحيّز الأكبر هو للجانب الكردي لاحقاً، سواء كان باللغة الكردية( وهذه لها الحضور الأكبر: اقتباساً)، أو بالعربية، كما هو معلوم.
إضاءة المفهوم:
لا يمكن الإجابة على أسئلة، تتطلب كتباً، لا بل مجلدات، من نوع: متى بدأ الشعر وكيف، ما هو الشعر وكيف، ما هو الشعر الحداثي في تاريخه، وتمييزه عما كلاسي، إذا راعينا التاريخ، والجانب الالتباسي في مفهوم الحداثة وصلتها بالتاريخ، وتعرضها للمتغيرات، ما الذي يوجِد الشعرالحداثي ويكوّنه، ما ذا يعني النثر، ماذا وراء عبارة : الشعر الحر( كما لو أن سواه مقيد، كما يخيَّل للبعض)، أو النثر المشعور، أين هي موسيقى الشعر، وكيف تكون الموسيقى هنا...الخ؟
لكن يمكن التوقف عند مفهوم الموسيقى، ولو قليلاً، لأن الموسيقى هذه هي عتبة رؤية، وحكَم فصل، في هذا المنحى، إنها بوصلة التحدي للشاعر إزاء ما يكتب، البعد المبارزاتي الذاتي والموضوعي نفسه، وهو يتقدم شاعراً، وما يشهده الاسم هذا من اضطراب المعنى، وصراع التسميات، أو احتدام المواجهات بين أهل الشعر، ومعهم النقاد بأهوائهم مجتمعة.
إن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو ارتباط الموسيقى بالوزن، بوجود بحر يحدد مسافات، حركات تخص الإيقاع، فقد تحدد الوزن ( بمجموعة التفعيلات التي يتألف منها البيت، وقد كان هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية)، أما الإيقاع فبوصفه ( تكراراً دورياً لوضع يمكن أن يلعب دوراً ثنائياً في تشكيل بنية القصيدة – انظر: محمد صابر عبيد، في مصدره، ص 20)، وهذا يمكن تعميمه على الشعر في اللغات الأخرى، من جهة اعتمادها على أوزان خاصة بها طبعاً،أو التذكير به إلى جانب الشعر المكتوب في لغات أحرى، أما بالنسبة للشعر الكردي، فأظنه أقرب إلى الشعر العربي، من جهة التأثر به كثيراً، حتى عروضياً، وفي الجانب الإيقاعي " الحُجُراتي" كثيراً بالمقابل، وأكثر من هذا وذاك، ما يتعلق بالجانب السماعي" الأذني"، كما لوأن السماع هو عروض الشعر الكردي، وضابطه الوزني، ومقوّم حراكه اللغوي، لدى جمهرة كبيرة من الشعراء يعتمدون الوزن والقافية، دون اعتنائهم بما يمكن قراءته ( فما يسمَع، حيث يتم ضبط الإيقاع، باعتماد النبر خفضاً وعلواً، يملأ الثغرات التي تشكل تصدعات جلية، غير الذي يُقرَأ، إذ تبرز التصدعات هذه، في مجمل ما هو مكتوب كردياً، حتى بالارتكاز إلى بحور عربية، وهو ارتكاز سماعي بدوره)، وفي هذا، جهل متتابع.
لكن الموسيقى التي يتم ربطها بالوزن، والإيقاع الذي يتداخل في تحركه خفضاً وارتفاعاً نبريين مع الوزن في ثباته العروضي غالباً ( عندما نجد في القصيدة الواحدة، حضور أكثر من بحر موسيقي، كما يسمى)، ليست ذات نسب وزني، عروضي، مقفياتي! إن هذا يعيدنا إلى الجانب التربوي: الشعائري الطقوسي التقليدي، في جعل الروح ذاتها تتجاوب مع الموسيقى هنا، بوصفها منبثة من داخل الشعر الموزون المقفى، وثمة ثقافة تتحدث هنا، وإملاءات سلطوية ثقافية تتحكم بهذا النازع الإيقاعي الموجَّه، والعملية مرهونة إلى تاريخ طويل، وصراع من داخل الثقافة.
الموسيقى تتجاوب مع لغتها، مع أي نص، يمكنه أن يكون شعراً، إذا امتلك المقومات اللازمة، وما في ذلك من اختلاف وجهات نظر لا تتوقف مواجهاتياً، ودخول مفهوم الغموض الملتبس بدوره، من أوسع أبوابه( أعني ما يكون شعراً، وهو يتبدى هنا وهناك نثراً)، حيث تتنوع الأدوات وقيافات القول الشعري في الحالة هذه، في التكثيف، وثراء المتخيل، وتداخل الرموز، وطريقة التركيب اللغوية، وموقع الجسد في الكتابة الشعري...، ليكون الإيقاع علامة فارقة للنص نفسه، مثلما أن الموسيقى تكون موشّحة له( أحيل القارىء، أو المعني هنا، إلى كتاب عبدالعزيز موافي، السالف الذكر، في الفصلين الثالث والرابع، من الباب الرابع: إيقاع القصيدة).
بوابة ضيقة جداً:
لقد ذكرت، على أن الشعر بدا إيقاعياً، وبالسماع، أي شفاهة، والشعر الكردي ما زال يصر على هذه الخصلة، وإن كان يغيِر على بعضه بعضاً( عندما يبرز شاعر يسمي نفسه حداثياً، أو أي كاتب كردي، ويعتبر ما هو مكتوب شعراً كردياً، قديماً، غير ذي نفع يُذكَر، ويكون الرد من المعتبرين أنفسهم حفدة ما كانوا حملة ثقافة كاملة بشعرهم، وحتى العهد القريب، حيث ما زلنا نشهد حضوراً جُزُرياً لهم في المحيط الهائج للمعتبرين أنفسهم عصريين- حداثيين، وفي الحالتين ثمة سوء فهم، والصحيح، هو الخلط بين زمن وآخر، بين دور ودور، بين قيمة اعتبارية لما يشكل شعراً، ونفي ذلك، بين موسيقى تتشفع بتراثها، وموسيقى تعلن تمردها، وربما عقوقها، على ما تقدم، كما لو أن بياناً صوتياً، أو حركياً من هذا النوع، يؤصل لحداثة كردية في الشعر، ويوطد الحضور الكردي في الواقع المعاش، وهو في تردي أبعاده قيمياً.
وما أذكّر به، هنا بالذات، هو أن مفهوم السماعية( السماعية تخيلاً، السماعية الحسية عموماً، السماعية كذات متماهية مع ذاتها، السماعية كجنوح لفظي، السماعية المفارقة لواقع مدروس بدقة واجبة، السماعية المفصولة عن الأرضية المؤهّلة لها لتكون في مستوى اسمها، واسمها ليس ثابتاً، مثلما هو مجيطها الجغرافي، وفضاؤها الثقافي، ومجال عملها التاريخي أيضاً)، ما زال الوثنَ اللعين الذي يصالب الكردي الموسوم، والتقدم شاعراً، يصالب يديه أمامه، أو يكون في وضع المستسلم لذلك النمط الإيقاعي الشفاهي( عودة سريعة ، اضطرارية، نكوصية، إلى السماعية الآنفة الذكر)، إن الكردي هو إانسان اللحظة السماعية تاريخياً، ومن الداخل، حتى اللحظة هذه، مع تفاوت غير ملحوظ كثيراً في النسبة، إنه بداوتي القريحة، المتجلبب باللامدني تصور ذات ِحقيقية مسلكياً، رغم أناقة ربطة العنق، وبهاء البذلة، وحتى التميز باتقان أكثر من لغة أحياناً، كما تقول انتشاراته الاسمية، أعني حضوره الشكلي، أو الهيكلي هنا وهناك.
هذا المذكَّر به، له علاقة بصلب الموضوع، بخاصية الموسيقى وحضورها الجلي، في كل ما نقول ونفعل، لا بل تكون الموسيقى مداخلَ، لمعرفة مدى عمرانية الكائن الإنسي من الداخل، وكل انزياح لها، أو جزر لها، أو حصر دلالي، هو تعريف بضحالة الذات ( انظر حول ذلك، ما أثرته في كتابي : الموسيقى عتبات المقدس والمدنس، الصادر عن مركز الإنماء الحضاري، حلب، 2005، وبدءاً، من المدخل:" ما لهذه الموسيقى" ، و" الموسيقى ذلك المجهول"...).
وقفة إطلالية:
يمكن النظر قليلاً،في كتاب الشاعر محمود صبري( Evîndarê Xemcivîn) : ( إطلالة على ميزان الشعر الكردي: de Nerînek di terazûya ristên kurdî)، وربما كان العنوان أيضاً ( نظرة في ميزان الشعر الكردي)، وهو دراسة " vekolîn"، والذي صدر سنة 1997، ثمة محاولة سبرية في هذا المضمار البحثي الموسيقي، كما يشير العنوان، وإن افتقد العنوان المذكور الدقةَ البحثية: المفهومية، وهو يستخدم ( الميزان)، بدلاً من الوزن المعروف في الشعر kêşesazî، محيلاً إلى جانبي كل من الشعر، أي القصيدة ذات الشطرين: الصدر والعجز، وضرورة تساويهما، وهذا لا يكون بإطلاق، حيث تتنوع كتابة الشعر، إن راعينا الوزن راهناً أكثر، وحتى في نصوص سالفة، لجكرخوين بالذات، في فصائد مختلفة له. كتاب صبري، وإن لم يكن مصدراً محكماً فيما نحن بصدده، إلا أنه يمثل جسراً ما، يوصلنا إلى الطرف الآخر من النهر البحثي، مما يخص مواقعية الموسيقى في الشعر كردياً.
في البداية يتحدث عن القصيدة، ومن ثم عن البيت الشعري ( يركز، كما يظهر، على الشعر الكلاسي، في شطري بيته)، وثم عن الشطرين، ولاحقاً عن الحركات والسكون ( أحيل القارىء، ومن باب المقارنة، إلى ما أورده كمال خير بك، في كتابه المعروف، حول ذلك، مع اختلاف الأمثلة، لاختلاف اللغة، ومقوماتها في حروف المد وسواها، صفحة 210).
ويوضح كل ذلك من خلال مثال شعري، مكوَّن من بيتين متساويين حركات ٍوسكنات، في الصفحة " 11"، وليس مبتغاي هنا، إظهار العلاقة بين كل من الحركة وكيف يكون رسمها، وإشكالية تثبيتها، والسكون المتناوب، مرة، أو أكثر تتالياً، وإنما إبراز بُعد إقحامي في الموضوع، سواء من ناحية التصرف بتسلسل الحروف، أو إقسار الشفاهي، أو العكس: المكتوب، للاستجابة للمرسوم تقطيعاً عروضياً، ودور النبر في هذا المقام، وحتى إشكاليته كردياً، حيث، من جهة يتشكل طبيعياً، ومن جهة ثانية، يتصرَّف به فوق طاقته، كجعل النبر المخفَّض مرتفعاً، كما هو السائد كثيراً، في المسموع من الشعر الكردي، أو حين يستحيل كتابةً.
البيتان المستشهَد بهما، ودون أن أتعرض لهما بنية ومقام جمال ِشعر، هما:
Şevreş bike ronî tu bi luks û fenerê
Maçek ji du lêvan bide ey lêv şekirê
ويقطّعهما هكذا:
Bi-ke-ro-nî-tu-bi-luk-sû- fe-ne-rê-şev-reş
Ma-çek-ji-du-lê-van-bi-de-ey-lêv-şe-ke-rê
ليقول تالياً( كما هو جلي، يتألف الشطر الأول من ثلاثة عشر مقطعاً، وكذلك الشطر الثاني من ثلاثة عشر مقطعاً. ص 12).
لقد تم تقطيع البيتين سماعياً ببساطة لافتة، ووفق هوى الأولين، والذين مازالوا محكومين بالذهنية للسماعية في تقطيع البيت، وإبراز الحركة المطلوبة، أو المخدَّمة، وكذلك السكون المعتمد: إطالة أو قصراً، وكما هو الوقف والتحرك هنا، وفعل النبر في تسويق الإيقاع اللفظي.
إن المقطع الأول، في البيت الأول، لا يقابل المقطع الأول، في البيت الثاني تساوياً، طالما أن الكلمة الأولى تتكون من حروف ستة، وحروف خمسة في الثاني، رغم تساوي التقطيع وزنياً.
إن van، تقابل nî، حيث سكونان مقابل سكون واحد، وفي الحالة هذه، يكون دور النبر جلياً، في إمالة الألف، كما لو أن الحرف هذا غير موجود.
لاحقاً، تقابل bi de ey،ما ورد في البيت الأول tu bi luk، حيث يجري ضم السين إلى û، ليستقيم الوزن.
وكذلك فإنsû، تقابل lêv، حيث يتراءى سكونان، مقابل سكون واحد،فيكون للنبر دوره التضخيمي مجدداً هنا.
أكثر مما تقدم، لا يمكن مساواة الحرف الممدود، بالحرف المخقض، أي بالحركة تحديداً، كما هو ملموس، وهذا متَّبع كثيراً في قراءة الشعر الكردي، ومن ثم تدوينه على الورق، دون ملاحظة الفارق كثيراً، حيث يفصح إجراء من هذا النوع، عن خلط كبير بين حرف العلة، والحركة، وهذايصادر على استقلالية اللغة، عندما تكون مقروءة شعراً، كما هو متّبع في الشعر العربي.
إن رجوعاً إلى الوراء، يمكننا من مكاشفة السلطة الشفاهية، تلك التي تؤسس لموسيقى الشعر، وتبيان المسافات التي تحدد العلاقات الإيقاعية للمقروء شعرياً.
لنأخذ هذا المثال من علي حريري 1010- 1078، وهو مأخوذ من ( تاريخ الأدبيات الكردية)، لقناتى كردو، وباللغة الكردية، طبعة ستوكهولم، 1983، صفحة 59.
Xalên di şibê enberî
Dêm her wek qemerî
Ez têr nabim ji menzerê
Min maçit ji xeyalê
Min qet naçî ji bîrê
Zilfêt şibê herîrê
Wê li ser be di mûnîrê
Dagirt bûn helalê
إن قراءة هذه الأبيات، تفصح عن مدى سيطرة الذائقة السماعية، وليس الإملاء السماعي، إلا امتداداً، لتلك الثقافة التي لم تتقوعد بعد، وتستقل عما هو شفاهي، وما في هذا المنحى من ارتداد عن العصر ومتطلباته، إن تم اعتماده بحلته هذه، في سياق وظيفة اللغة، وحركية الزمن، بإيقاعاتها المختلفة والمنظمة.
إن المتقدَّم به ، لحظة متابعة أمره،ينطبق على كبار الشعراء الكرد، ممن وردت أسماؤهم في الكتاب المذكور، أو في ( انطولوجيا الشعر الكردي)، وكما في حال جكرخوين وسواه.
فاصل منشّط ؟ :
أستعيد هنا الرأي الذي أورده باسيل نيكيتين، في كتابه ( الكرد" دراسة سوسيولوجية وتأريخية") والمترجم من قبل الدكتور نوري طالباني، سنة 1998، وهو يخص الألماني أوسكار مان، ومضمونه ، هو أنه يربط الأبيات الطويلة والقصيرة، وتنوع القافية، وعدم وجود الوزن أيضاً، وكذلك حالات الوقف، بالموضوع نفسه عند الكرد ( ص438)،.
وفي مكان آخر، يبدي ملاحظة، رابطاً بين السياسة والشعر ( إنهم في السياسة، شأنهم في الشعر، لم يستطيعوا أن يتجاوزوا المرحلة القبلية المبنية أساساً على الفردية وعدم الانتظام ..ص443).
هذه الملاحظة الثمينة، والتاريخية، كان يمكن الاشتغال عليها من قبله، حيث أن السائد في السياسة، هو المتلمَّس في منحاها القبلي العشائري، والذي يمنع بروز الذهنية الجامعة ثقافياً، والتي من شأنها ممارسة تقعيد العروض الكردي، إن جاز التعبير، كما فعل الفراهيدي عربياً. إن الشتات في القول الشعري، أو ما يدخل في عداد الشعر، وهو مغنَّى، من طول وقصر، ومن اختلاف في القافية، ونفي للوزن أو حضور ما له، لتكون للموسيقى حركة مختلفة..، إن كل ذلك يواجهنا بالبعد الخرائبي، لجغرافيا ثقافية مستقرة، ومن خلال نوع من التآلف الموجود، يمارس ضبطاً أكثر لما هوفونيتيكي كردياً، ويضفي على الشعر الكردي والذي ما زال الفولكلور يحتفظ بالكثير من أوابده و" قلائده"، قيمة امتياز تاريخية، تلهم الآخرين، والكرد بداية، وهم في تبعثرهم النفسي والوجداني، عدا التضاريسي، والتاريخي، حيث النهايات الكبرى، والمترافقة مع طول بيت ما، كما في ( أغاني الحرب ، مثلاً)، كما هي النهايات القصيرة، تتجاوب مع كمية الهواء الداخلة إلى الرئتين، وتعبّر عن الحالة النفسية، والمكان، وكذلك الوضعية الاجتماعية للمعنيين بالموضوع.
ولكن، وقبل كل شيء، تكون الشفاهة، عبر السماعي، من خلال مطمطمة الصوت، ورغم أنف اللغة وقواعدها في السكون والحركة، سلطة طاغوتية، تؤكد أصالتها البارعة والمخيفة، في احتواء الغالبية من الكرد، ومن الداخل، حتى وإن بدوا حداثيين بيوتاً وتخوتاً وسموتاً ( أحيل القارىء هنا، إلى أمثلة فولكلورية، جمعها جكرخوين، في كتابه : الفولكلور الكردي، ستوكهولم، طبعة 1988، وكذلك إلى أغاني عبدلو، سعيد ملا خليل، عبدالعزيز سمي، هجار علاني، سليم كورو، رفعت داري..، وأظنها متوفرة عند أصحاب محلات بيع الأشرطة...).
هنا أثبت: ما أشبه الشاعر الكردي، وهو في أوج حداثته المعتبرة، بذلك المغني المضافاتي، حيث المضافة حلت في الداخل، وهو يتصور: يتخيل الآخرين متحلقين حوله، أو يسمعون صوته، مع فارق أن المغني كان يجوّد صوتياً، بينما الشاعر، فهو يجوّد بالصوت دون التنغيم المطلوب).
لنأخذ هذه القصيدة، لسيدا جكرخوين، من الديوان الثامن ( ِaşitî)، والمنشور بعد وفاته، سنة 1985، وهي قصيدة ( Kurdo namûs e rabe)، كما كانت المرحلة تقتضي بلغتها، وطبيعة النظم اللغوي فيها، والمسئولية التي يستشعرها صاحبها:
Kurdo namûs e rabe
Ji bo me qet we nabe
Li şoreş tên kuştin
Li vir vexun şerabê
Ji bo me fidakariyê
Em dernegan vekin zû
Da brayên Îranî
Li me nekin itabê . r:49
في هذين المقطعين، ثمة إمالة لحرف الألف، في الكلمة الثانية، في البيت الأول ليستقيم الوزن، بينما ثمة كسر جلي في البيت الثالث، ووحده الصوت قادر على ملء الفراغ، ويمكن السير قرائياً مع مجمل المتبقي من المقبوس. إن الموسيقي تتبع نظام الصوت المسموع حسياً، والمودع داخل المنشور أو المطبوع على الورق، كما يظهر. والمدرك لطبيعة البحر، يعرف إنه إزاء مجزوء الرجز، مع تصرف اعتباطي بوزنه، والإيقاع بدوره متحكَّم به شفاهياً، وجكرخوين واقعاً، ليس الاستثناء هنا، لا بل ربما كان الأفضل بين الكثيرين، من متعلمي العربية، ممن اعتمدوا العروض العربي في الغالب، من خلال تأثرهم بالثقافة العربية هنا، والمستندين إلى الأذن الذائقة سماعياً.
منازلٌ منازلٌ:
نعم، نحن بصدد منازل القول الشعري، وتوجهات القول هذا، ومراتب: منازل الموسوم بالشعر، بغض النض عن الوزن، أي أنني أهتم بالوزن، طالما ينطلق صاحبه منه، لأمعن النظر: السمع بالتحديد، في الملفوظ، بحثاً عن حركية الموسيقى داخلاً، مثلما أهتم بالشعر، متجاهلاًرهان الوزن، طالما الرهان يعتمد على البنية الإيقاعية الخاصة، على تفجرات المعنى، وزخم المتخيل.
ثمة أمثلة مكاشفة لبعض مما يخص موسيقى الشعر.
المثال الأول يخص مقطعاً من قصيدة بودلير ( هارمونيا المساء Harmonie du soir):
Voici venir les temps oú vibrant sur tige
Chaque fleur s,évapore ainsi qu,un encensoir
Les sons et les parfums dans l,air du soir
Valse mélancolique et langoureux vertige
( المصدرles fleur du mal: أزهار الشر، طبعة pocket، باريس 1989، ص 71).
والترجمة المقترحة:
هاهو الوقت أقبل إذ تتهزهز
كل زهرة على ساقها وكما المبخرة تفوح
حيث الألحان والعظورطي نسيم المساء
مثل دورة الراقصة المغمومة والنشوة الواهنة
والمثال الثاني، مأخوذ من كتاب أرشيبلد مكليش السالف الذكر ( ص28- 29)، ويخص جويس:
Wind whines and whines the shingle
The crazy pierstakes groan
A sentile sea numbers each single
Slimesilvered stone
والترجمة الواردة في الكتاب هي:
الريح تنتحب وتنتحب الألواح،
وأعمدة الرصيف المجنونة تئن،
والبحر الهرم يعدُّ كل حجر
غرويّ فضي ..
ما أردت من خلال المثالين السالفين، وعبر محورة الموسيقى، هو التالي:
إن مجموعة الأبيات الواردة( بالفرنسية في الحالة الأولى، والانكليزية في الثانية)، تعتمد إيقاعاً ركيزته الوزن المعتمد في اللغتين، مثلما أن القافية تأتي في النهاية، وهي ثنائية في المثالين.
إن المتمعن في المثالي، ومن وجهة نظر شعرية، لا بد أن يتلمس روح الشعر، من خلال كثافة المنظور الإبداعي، والحراك الدلالي الضمني، فيكون الوزن لاحقاً على مزايا لغة الشعر.
إن المقروء، عبر الترجمة، لا أظنه يقلل من الحضور الموسيقي الباذخ في المثالين، حتى لو أن الوزن غائب، بفعل الترجمة، ويعني هذا، أن روح الشعر، عندما تتخلل لغة ما، تكون الموسيقى حاضرة، ولا يمكن لا للقافية، ولا للوزن، أن يؤكدا همزة الوصل الشعرية هنا.
ولعلي، باقتباسي هذين المثالي، أريد التنويه إلى الموسيقى التي تتلطف باصطحابها روح الشعر، دون اعتبار الوزن أو القافية، جواز تأكيد أو عدم تأكيد لما هو شعري هنا.
القارىء، وكما أرى، يستشعر استئناساً روحياً باللغة، وهي مترجمة، من خلال الجو المضمخ بالمتخيَّل الشعري، بانفتاح الكلمة على أفق رحب، من ناحية تتالي الدلالات وأطياف المعاني.
وثمة مثال ثالث، يتعلق بسليم بركات الشاعر والروائي الكردي، وهو يكتب بالعربية، إنه مثال مركَّب، أعني أن ثمة ما يقرَأ له موزوناً، باعتماد بحر أو أكثر، أو حالة المزج بين الموزون والمنثور، ودون القافية أحياناً، وما هو طليق، دون وزن.ومن يقرأ الأعمال الكاملة( الديوان)، يلاحظ هذا المنحى، حيث الارتكاز يظهر أكثر من خلال ( المتدارك)، وفي بعض الحالات يظهر كل من ( الكامل) و( الرمل).
في ( دينوكا..) مثلاً، حيث يتقاسم ( المتقارب) بقية القصيدة، في بناء المعلم الشعري لها.ويبدو ديوان ( الكراكي) في أهبة اللاوزن، دون إخفاء الموسيقى المنبثة من حيوية الكلمات المتدافعة:
تيتل على الهضبة
وسكون يرفع قرنيه عالياً كالتيتل... ص159.
ولنمعن النظر في هذين المثالين:
ربما ذكَّرني الورد بنفسي،
ربما ذكر بي الورد رمالاًحُزمت كالنفس
قبل أن يطلقها البحر متاريس، ويأتي بسدود... ص 219.
والمبتدَأ به في ( منعطفات ظهيرة من ريش ...):
علّق الليل،
علق الليل كقبعتك،
وناد حوذيك النهار، الواقف، في انكسار، لصق عربتك الفارغة. ص 257.
ثمة دفق من الصور، من التعبير الجسدي، بكامل هوامياته، وحالات مزج بين صور متباعدة، ولكن الموسيقى تشغل المثالين، وإنما – أيضا- الخارج عن طور البحر، أكثر إفصاحاً عن حركية الموسيقى من الداخل، فلماذا انسياب ( الرمَل) في المثال الأول، وهو محدود بموسيقاه، وتجلي صوت الموسيقى في المثال الثاني أكثر؟ ألأن ثمة انطباعاً مسبقاً من أن بركات يشحن كلماته بالموسيقى من الداخل، ويبتعد عن الوزن، ابتعاده عن سلطة متوارثة، تمارس في الشاعر نقييداً؟
أم تراه يمارس تجريباً، وربما من باب المنافحة، على أنه قادر على الاشتغال بالوزن والقافية، وفي الآن عينه، بالشعر الذي يتكاثف معنىً، بعيداً عن أي وزن أو قافية؟
بركات مقروء شعرياً، فيما لم يتقدم به موزوناً أو مقفى في بعض الحالات ( في قصيدة " البراري " ص 68، يكون ( الكامل) بحراً معتمدا)، أكثر مما هو معرَّف به شعراً موزوناً وقافية، وهو في الوقت ذاته، يبرز أكثر طلاقة رؤية، وإبحاراً في الذات الشعرية المتهادية موسيقى، كما لو أن الكلمات ملحقة بالموسيقى، وليس العكس، من داخل مدونات ( الديوان) كثيراً).
ثمة نزوع إلى الموسيقى، إلى مكاشفة مكوناتها، من خلال ضروب التتابع أو التعارضات القائمة، أو تسخير جمهرة من الرموز، لبناء القول الشعري ذي المنحى المتجاوز لأكثر من صدى متماوج.
معهم حيث تكون موسيقى الشعر:
التوقف عند مجموعة من الخيارات، في كيفية التعرض لهذا الكم الكبير من المقدَّم برسم الشعر، سواء كان باللغة الكردية( وهو الجانب الأكبر هنا)، أو باللغة العربية، دون الفصل بين موضوعها وشاعرها الكردي هنا، يتطلب التزام المزيد من التأني، بغية احتواء المزيد من نقاط القوة والضعف معاً، وهي تجلو جانب الموسيقى، وكيف تنتشر أو تنحسر في صميم البنية التكوينية للمشهد اللغوي المتشكَّل شعراً، وكذلك التوقف عند مجموعة الاختيارات الواجبة تلك التي تخص هذا الكم المعتبَر، وما يمكن لهذا الكم، أن يستجيب للمخطَّط له بحثياً.
في الحالة الأولى، أجدني إزاء نقطة ارتكاز قاعدية، تمنحني، كما هو متصوَّر لدي: رؤية الحراك الداخلي للموضوع المثار، في تنوع تردداته القاعية، وليس الظاهرية، أو المسطَّحة مقومات، ولعل إجراء كهذا، يقيم وشائج قربى تكوينية أرحب، بين الشكل والمضمون، الظاهر والباطن.
في الحالة الثانية، أجدني بالمقابل، في مواجهة تحدٍّ ، تبيّنه أجندة الموضوع، أعني مختارات القول القول الشعري، أو ما نسِب إليه بندياً ( أُخِذ بشمول مسماه)، ولائحة المختارات الكبرى، لا تمنحني استقراراً مكانياً بالتأكيد، ولا تجنبني شططاً في بعض الحالات، وأنا أحاول مقاربة هذا الصدى ( الرجيم): الموسيقى، وتأريضها ( جعلها أرضية الإقامة)، من خلال المقروء، مأخوذاً بهوىً ما، مثلما أنها لا تقصيني عن وضع تيهي، بسبب التدفق الكبير لأطياف النصوص الموجودة، وما يدخل في حومة المقايسات، أو الاقتباسات المحوَّرة، ومحدودية الأمثلة، ولا سهولة مقاومة فتنة القول السائر ، وصعوبة ربط محنة الشعر بموسيقاه التي تتجاوز سلطانية الوزن، وحكمانية القافية، وهنا، أحاول تتبع نماذج مختلفة، والتركيز على أسماء ، لم أتعرض لها في محاولات نقدية سابقة، أسماء تتلمس في ذواتها حاضرة الشعر بامتياز، وكمال الموهبة المطلة على مستقبل يشي بمغريات نجومية، كما تقول بنية نصوصهم المنتقاة اضطراراً، وحيث لا يكون ترتيب الأسماء، أو النماذج خاضعاً لمقتضى حسابي ما، إنما هندسي يخص مدى حضور الشعر، بالصيغة السالفة، ويكون التقديم والتأخير في الأسماء، أشبه بلعبة كتابية، ولكنها مرسومة عن عمد، لئلا يكون التسلسل في التقديم، ذا صلة بقيمة لافتة لهذا الاسم أو ذاك، وحده المضون، ومدى تجلي حمامة الشعر المصفقة بجناحي موسيقاها، تشير إلى بر المعنى الأخصب هنا.
ولئلا تفوتني ملاحظة اعتبارية، ومن صلب البحث، لا بد من القول ، على أن كل ما ما هووارد من شواهد، أو مقبوسات، لا تشكل لوائح ( نأديب) أو خواتم قول ( محكم)، بصدد أي اسم، فكل مثال هو دون اسمه، وإن كان يرجو مناشدة الموسوم شعراً، وإن كان يُتقَدم بأدوات نقدية مكاشفة، ولأن الإجراء هذا، يعنيني أنا، ولا يلغي أياً من المعنيين، وإن كنت في عملية المكاشفة الدلالية، أبتغي تبيان كشف الجامع المشترك بين مجموع الداخلين في اختبار المعنى المحدَّد هنا.
مثلما أشدد على مقولة أن " الترحيب" النقدي بمقبوس ما، في مثال اسمي، لا يعني أنه بات قاب قوسين أو أدنى من التحليق الحر، في فضاء الشعر الرحب المدى، ولكنه يشكل علامة مضيئة، ثَنائية، تؤكد عتقاً لذات الشاعر من وطأة اليومي، والهامشي، والضحل، مثلما أن الموقف المتشدد من مثال آخر، لا يعني أنه من جهته، لم يعد في مستطاعه التقدم بخاصية شاعر، ولكن ذلك يشكل، علامة فارقة، تستدعي تنبهاً مضاعفاً، باعتبار صاحب المثال، يتطلب مقاومة أكثر، من جهة الاعتراف بما يعتبره شعراً، وهو خلافه، وبذل المزيد من الجهد، لتحقيق نصاب شعري.
بداية أتساءل: ممن يكون البدء، أو الانطلاقة البحثية؟
ربما أشرت سابقاً، إلى أنني أتحرى هنا، جملة من "الإرشادات" المعالمية، تلك التي تكفل لي، كما أرى، تأكيداً ما، لما يلي:
ما يقدمه الجانب الوصفي، من بداهات محققة، تتشكل إثر تراكيب لا تخفي مباغتتها، والوصف، وما أكثر الوصف بقياماته العاطفية، وأهوال قياماته هنا، الوصف هذا، لعبٌ بالنار، ولهذا، يأتي التركيز على كيفية ممارسة اللعب بالنار، دون أن تحترق يدا الشاعر، إنما يضاء عالمه بها.
كيفية التوفيق بين المتعارضات، وبناء صيغ قولية، تستولد موسيقاها المرافقة، وهي متنوعة.
الجُنََح الدلالية ، تلك التي تتخلل بنية الكتابة، وعدم التدقيق فيها، على أكثر من صعيد، وما وراء معايشة الجنح هذه، في مسبارها النفسي والثقافي والتربوي كذلك.
أقتصاد اللفظ والمعنى، بحيث يتآزران، في وحدة نصية، تضمن الجهر الذاتي بموسيقى متخيَّلة فعلاً، وهذا يمكن ملاحظته، من خلال الشعور القرائي بما يمتد حسياً، لحظة التفاعل الطرفيني.
وعندما أسمي هذه النقاط، تكون إجرائية،كونها في مجموعها لا تنفصل عن بعضها بعضاً.
أنسباء الموسيقى في الشعر:
أتحدث عن الوصف الذي يُخرج القارىء، أو المستمع، من حيث المنظور الطبيعي( كما هو الممتد أمامه في الطبيعة والواقع)، فتكون الدهشة حلقة الوصل بين أي منهما، والشاعر، والوصف لا يكون مجرد اعتماد لغة الاستعارة العادية، وإنما التخلي عن التركيب اللفظي المتوارث، أو المعتاد بتركيب هو صنعة الشاعر، حيث يصعب تقليده. إنها بصمة الشاعر المتحوّلة معه، بصمتُه في تنوع آثارها: كثافة إشارة، وخفة عبارة، وتصعيد فارهٌ بالمتخيل.
مثلما أتحدث عن الحراك الحر، دون ضياع الوزن، بسبب استعمال مفردات، يصعب تقبل أي صلة فيما بينها. إننا بصدد كيمياء العلاقات اللغوية هنا، والنتيجة تجلو بهاءها، إثر كل قراءة.
وأتحدث هنا، عن الموسيقى، من خلال الكلمات التي وإن تكررت، تكون متحررة من ظلال تبعية لبعضها بعضاً، إن كل كلمة أمَّارة بحضور دلائلي مختلف، إن سحر اللقيا، هو في الهارمونيا المتحصلة من تفاعل الكلمات المستدعاة، في حالة كونها، تمثل عائلة الشعر دون خانة ثابتة.
مدارات أصوات :
في قصيدة Bihna Reyhanan … Bihna dayîka min e …) : رائحة الريحان... رائحة أمي)، لـNezîr Palo، والمنشورة في موقع ( روزافا- 2006)، يمكن رؤية الكثير من روح الموسيقى، والشعور بظل فولكلوري لا يخفى، يسمي الكثير من حضور الذائقة الأدبية الشعرية، عبر مشهد بيتي، مشهد علائقي، طرفاه الشاعر الذي يستعيد طفولته، طفولة ما، حيث يخاطب الطفل أمه، أعني يعيش قلقها، أمومتها، مثلما يجلو ارتباطها بباعثه الحياتي، والأم المفجوعة بأبيه، بزوجها، وهي تعيش لحظة حضوره المستحيل، والغياب وحده يسفر عن ولادة موسيقاه النافذة خلل الكلمات، لكن ثمة استرخاء في الدوزنة الإيقاعية داخلاً أحياناً، واستفاضة في الوصف، كما لو أن الشاعر يعيش الطفل، وهو يريد تسمية كل شيء بلاغ المشهد الحسي.
إن إيراد مقطعين، يقربنا من الكثير من حيثيات التجلي الموسيقي ضمنا:
Çendîn tu li benda bavê min dima, te destên xwe yên henekirî, di nav porê min re dibirin û te bi stran digot: de nenî nenî delalê mino nenî.
Delalê te yê biçûk dikete xewê û tu li benda vegera delalê mezin hişiyar dima.
Êzingên ardanka te hemî dişewitîn û dibûn xulî, ardanka te sardibû, lê dilê te disotiya dayê, çavên te li min bûn, û guhên te gavên bavê min dipan.
Pir caran çilpikine germ dadiriviyan ser ruyê min, ew germahiya stêrên te bûn dayê,
min digot: çima digrî dayê?
te digot: na ez bi qurban, ev xaniyê me dilopan dike..!!
Ne dilopên bana xaniyê me radiwestiyan, û ne jî dayîka min li bendemaniya hatina bavê min diwestiya.
Her rojê, te ew topreyhan a di pencereyê de avdida, te digot: bavê te ji bihna wê hezdike,
dema vegere, ez ê deynim pîşa wî, û dema razê ez ê deynim ber serî.
Her ku bavê te bi kûranî bihna topreyhanê dikêşe, dibêje: ( Subhan Alah ) çi xweşe..
ev bihn bihna bihuştê ye..!!
Her min digot: dayê va ye bihna reyhanan ji te tê, nizanim ew dikeniya…an jî digriya..!!
Ne pencereya mala me dihate girtin, û ne jî topreyhana tê de diçelmisiya.
Bihna reyhanan ji navê deyika min û ji giyanê bavê min dihereke…
الكلمات في غاية البساطة، وهذه الشافية الكريستالية في الكثير منها، هي التي تؤمّن صعود صوت موسيقى الشعر، أعني الشعر الذي يؤمّن بدوره، للموسيقى ظهوراً مرافقاً على الأقل، كون الوصف ملتزمَ حدّه نوعاً ما، ومفارقات اللغة لا تخفي لعبة السرد الوصفية، ( وأقول " نوعاً ما" لأن ثمة ما يحد من انبثاق الموسيقى هذه، ثمة ما يحول دون ولادة ما يكونه الشعر شعراً).
نلحظ منذ البداية، كيف يتحدث الشاعر، وهو متمثّل سلاسة الطفل فيه( وهو طفله وقد بات كما هو في حديثه عما كان متخيَّلاً، يتحدث عماذا؟ عن أمه، وبلسان أمه هذه، عن أبيه، إنه دفق حب ومصارحة بهذا الحب، عن يدين محنَّاويتين ( كنت تمررين يديك المحناويتين حللَ شعري)، هذا تجنٍّ على اليد وحركتها، ونشاز في المحبك الموسيقي: فاليدان تمسّدان الشعر، تمرَّران عليه، وليس بينه ( dibirin di nav porê min re)، والصحيح: ( كنت تمررين أناملك" أصابعك" المخناوية خلل شعري)، عدا عن أن اليد كاملة( حتى بداية المعصم) لا تصبَغ بالحناء، إنما الأصابع، وربما بعض من راحة اليد وبالمقابل، بعض من ظاهرها، تعبيراً عن الفرح، شعائرياُ.
والطفل الصغير الذي يستغرق في النوم، على هدهدة صوت أمه وأغنيتها، تبقى هي يقظى" سهرانة" تنتظر أباه. إن قول( تنتظرين يقظى" سهرانة" رجوع أبي)، تكون مفردة" سهرانة" مداهمة ومقحمة، أي : زائدة، إذ طالما أنها تنتظر، تكون إذاً : يقظى" سهرانة"!
وكذلك فإن ( حطب موقدك يحترق كاملاً، ويستحيل رماداً، يبرد الموقد، لكن قلبك يستعر يا أمي)، مشهد شعري لافت، لكنه، من جهة المصارحة بمكوناته، ينقلب على شعريته، بسبب إهمال المطلوب: اقتصاد الوصف، والدقة:
يكفيه قولاً( نار موقدك تخمد" تبرد") بدلاً من الجمل الثلاث التالية،( تُرى من لا يعلم أن الحطب الموجود، إن اُشٍعلَت فيه النار، لا يحترق كاملاً، ثم لا يبرد؟)،عدا عن " و"،فهي تثقل على المشهد إيماءةً، عبر تقابل: تعارض جميل، ثم لا يُكتفى بالموقد فقط . أما Êzingên، أي " الحطب" وهو هنا، لا يستحيل رماداً، إنما ardû" الحطب يتلاشى كلياً في النار، وفي الحالة تلك، ثمة تحريف،وسوء تصريف: لأن الحطب هناك، لا يستحيل رماداً، إنما يصبح أشبه بالفحم komer، إذ يُلحَظ المحترَق كاملاً، دون أن يفقد الشكل الذي كان عليه بدايةً.
في المقطع الآخر، مثلاً: عندما يقول على لسان أمه، بصدد الريحان المزروع والذي كان أبوه يحبه ( أبوك، كلما كان يشم رائحة الريحان بعمق، يقول( سبحان الله)، لكم هي رائعة، هذه الرائحة ، هي رائحة الجنة)، الشعر، يلبس دائماً قبعة الإخفاء، ويصر الشاعر كثيراً على نزعه، رغم أنه ينشد قبعة الإخفاء، كما هو ديدن نصه آنفاً: إن عليه، وهو يعبّر عن روعة الريحان شماً، أن يترك الباقي سراً شعرياً، لمتخيَّل القارىء الشعري، لذوقه، عدا عن ذلك، لا أدري من أين جيء بالعبارة الدالة على الدهشة هذه، في ورعها الديني( سبحان الله)؟ فهذه تخص تجلي مفارقة ما، وتساؤلاً، بينما الأب مندمج في الرائحة، لهذا يُكتفى بـ( الله !) ، كما يمكن تخيل ذلك بسهولة.
وفي قصيدة لجانا سيدا Cana Seyda( ماؤك وهواؤك Avûbayên te) والمنشورة بدورها حديثاً، في موقع ( روزافا)، ثمة حديث في الحب، شعف المحب الصوفي لمحبه، وهي تتحدث عمن تهواه، بلغة، لا أظن أن حيويتها الناطقة، بمعروف الشعر الجلي، لا تجهر بموسيقا المشهد التعبيري: الوصفي، إنما الداخل في نطاق الرغبة، في قول الشعر، وتعالي الموسيقى .
ثمة لعب لا يخفي مهارته، مهارة المتخيَّل، في ثنائية الانزياحات الكبرى، حيث المشهد الجسدي، كما هو المميَّز كثيراً فيما هو حداثي، هو الذي يحيل العالم إلى علاقات جسدية، ليقبل العالم إثرئذ، من فيوضات هذا الولع بعمران الجسد، بالحياة المستقاة من رغبة تسمى صراحة:
Dema dest didim te
Giyanê min kesk dibe
Û xaka di bin lingên me de
Kessssk dibe..
Dema tu werî
Ezê keziyên xwe
Vekim,
Bixûrê ji te re vêxim,
Li defan bidim
Û li ziyaretgehên awirên te
Li ber deriyên weliyên tiliyên te
Terîşên hêviyan
Girêdim..
Ezê di sêqorziyên niviştan de
Ayetên bêrîkirina xwe
Binivîsim..
Têkevim xetma şêxên sawa te
Û bi cizba pêrgîna te kevim..
Ezê te bi çavşînkan ji nezera xwedawendan
Birevînim,
Te heft caran bi zemzema mihibaniya xwe
Bişom..
Ezê te bi laşê xwe yê sotî
Bisojim..
Tu yê di buharê de werî
Dema gulhinarên min
Xwe fêrî bişkivînê
Bikin..
Dema balindeyên lêvên te
Baskên xwe li sînga min
Bigerînin..
Lê eger îsal buhar
Dereng were
Ezê ewrekî li xwe bikim
Û te bibarînim…
أوردت هذا المقبوس، تعبيراً عن رغبة، في أن يكون مجالاً للنظر للقارىء، وبغية تشكيل انطباع أكثر حركية ومعنى، ولأنني أتجاوب مع رغبة خاصة بي، في قول ما أريده هنا، ولو أنه لا يماحك الوارد في المقبوس، وإنما يبتغي مكاشفة أكثر للوجه الإيقاعي: الشعري، وهو أن المقبوس ذاك، يكاد يرتعش حياةً، خارج حدود القرطاس، كما لو أنه الشاعرة ذاتها، أو يمثلها، عبر شغف الرؤيا بميعاد الآخر، ولكنه الآخر الذي يكون الشعر ناطقاً باسمه، ولتكون العاطفة مشذبة.
إنما، وكما في المثال السابق، ولو بشكل أقل، ومن خلال العلاقة، بين المقدَّم شعراً، والمعرَّف به استعراض شعر، تكون المفارقة، مثلما تكون الموسيقى تفاوتية: صعوداً وهبوطاً مقلقين، حيث الشاعرة " تتمادى"، كما هو يخيَّل إلي، هنا وهناك، في الاسترسال، وباستحضار مناخ الفولكلوري من جهتها، والبعد الدلالي، وتحويله لصالح المستنطَق الشعري عندها، في مهب لقيا الآخر، دون وعي منها، بأن ثمة آخر" القارىء هنا" في انتظار مقول قولها الشعري بدوره، مثلما أنها بالذات، عندما تكون في حضرة" لقيا" المدنَف به، لا تروم كلاماً، بل يتوارى الكلام، حيث الجذب الشعائري، وقد أُفرِغ من حمولته الطقسية، وألبِس اللازم الشعري، الجذب يحل مقاماً هنا، أي يكون الجسد، وعبر العينين، الناطق الأكبر بمقام العشق المقدس.
بداية تقول :
عندما يمد اليد إلي
جسدي يخضرَُّ
والأرض تحت أرجلنا
تخضرررر..
ثمة توقيع للجسد هنا، وبعد ذلك، ثمة انقطاع عن العالم، فلماذا محاولة وصف الأرض، حيث يترَك أمرها لصاحب الأمر هنا ( القارىء)؟ يتعمق المعنى دون الأخير أكثر.
تُرى لو وضعت مفردة( divebe: ينفتح)، إشارة إلى الجسد، ثم يأتي التوقيع، دون " واو": الأرض تخضر، دون عبارة ( تحت أرجلنا)، إلا إذا ابتغت سيادة ما، أما كان أكثر شعرية؟
هنا لا ألزم الشاعرة، ولا غيرها، في أن تستجيب لمقترَح ما، وإنما أعبّر عن وضع شعري يخصني مكاشفة نقد، ومن خلال الموسيقى، وكيف يمكنها أن تكون أكثر تردد أصداء !
ثم لاحظوا اللغبة الشعرية التالية، والجديرة بالتصفيق الروحي:
عندما تأتي
ضقائري
سأحلها
البخور
سأشعله لكَ
الطبول سأدقها
وفي مزار نظراتك
أمام أبواب أولياء أصابعك
شرائح الآمال
سأعقدها
لكن المشكل الشعري، هو البقاء في حالة الدوران، عندما تصدق الشاعرة، أنها حلت في صميم المزار، وليس عليها إلا أن تستمر في ممارسة المزيد من الشعائر المزارية داخلاً وخارجاً، إذ يأتي المقطعات التاليان، مأخوذين بهوى الحالة الأولى، ولعلي لآ أنكر خفة الرؤيا الشعرية لدى جانا هنا، ولكنها، لا تعمل مراسلة تلفزيونية، وتشدنا إليها عبر مشهد موصوف، بلغة الشعر، بقدر ما تحاول شدنا إلى ذات المزار ، باقتضاب، ثم تدعنا هنا، وليس أن تسترسل. إن كل ما أفصحت عنه ببلاغة مكانية، يكون في عهدة ما سلف، وهذا هو الانجرار وراء شغف الذات بما هامت به، ليكون الهيام ، سبباً ما، يضعف علائق الوصل بين ممارسة الانفتاح أكثر، والإتيان بالعجائبي أكثر، حيث يمكن للموسيقى أن تتجاوب أكثر بدورها، مع تنوع المشاهد الشعرية.
أجدني في الأخير، ملزِماً بنفسي، بإيراد المقابل المقترح، للمقطعين الأخيرين، تأكيداً على أن الوارد فيهما، لا يمكثان في المكان، وإنما يرفل المكان بزهوهما كثيراً، أعني موسيقى البوح الشعري، أعني، ما يؤكده الشعر من جهة قيمومته الإيقاعية:
ستأتي في الربيع
عندما خدودي
تتعلم
التبرعم
عندما طيور شفتيك
تلف بأجنحتها
صدري
لكن عندما الربيع
يأتي السنة متأخراً
سأرتدي سحابة
وسأمطرك !
في مشهد آخر، يعتمد على الإيقاع الداخلي كثيراً ( يراهن شاعره على موسيقى النص)، من خلال الإيحاءات المنشودة، أو المتصورة، وهو مأخوذ من قصيدة للشاعر تنكزار ماريني Tengezar Marînî، وهي ( أغنية ليلة نائحة Strana şeveke giryane)، ثمة مقاومة للذات، في أن ترى أبعد من حدود الحسي، أن تمتد في تجربة المشهد المكاني، أن تقيم الفوارق بين الحسي الجسدي، والحسي الروحي، أن تؤلّب المكان على ذاته، لأن ثمة قهراً معاشاً، وربما هو مشهد قياماتي ما، ولو أنه مصغَّر، كما شهدناه ماضياً، في أكثر من مكان، والشاعر يتجاوز أحداث الليلة النائحة، فالليلة المجازية تمتد جهاتياً، والموسيقى تباشر ديمومتها من الداخل، ولكن الشاعر يأبى إلا أن يدخل في الحيّز المشهدي، ما ينسى أنه إخلال بعقد الشعر، بلبلة للهارموني من الداخل، حيث جلاء المشهد الليلاتي، يعلم المعني أنه يقظٌ بروحه، وليس بجسده:
Roj bilind bû
Bêhêz im
Asîman daket
Û ez çavên xwe vedikim.
Jiyan dikele,
daristan, bajar di nav agir de ma,
asîman di nav baranê de.
Şev hilmê dikêşe
Helbestvan hest bi pora wê dike, dirêj e,
peyv dest bi xewê dike, mîna gulek di gulwazeke camî de
kolan bêpencere man.
إن كل ما يصفه، يعني أنه يقظ، أومتنبه، فلماذا يصف نفسه على أنه ( خائر)، لماذا يصف ما هومرئي، أو يمكن ملاحظته، ويقول ( وأنا أفتح عيني)؟ هذا تدخل ، لا تبرير له، إلا إذا كان الشاعر يريد أن يؤكد لنفسه وبنفسه، على أنه هو هكذا، كون الموصوف يحدد مباشرة كيف يكون وأين هو. وربما هو قلق الشاعر إزاء الجاري، ولكن الشعر لا يريد حفل تعارف هنا . لا يريد التشابيه المركّبة ( تبدأ الكلمة بنفسها مثل وردة في أصيص بللوري..). الشاعر يراهن على النهاية، على انسداد الأفق، لتبيان هول الحدث ( الشوارع بقيت دون منافذ)، أي انسدت من الجهات كافة ! إنه بعد آخر من التفجع الشعري، وهو يُري جميله بالمقابل.
أجد نفسي إزاء نموذج آخر، لا يخفي فنيته، في التقاط اللحظة الجمالية، لقول الشعر، والسماح لموسيقى الشعر، في أن تحضر، وأن يتم تخيلها، وذلك من خلال مقبوس، من قصيدة الشاعر غمكين رمو XEMGÎN Ê REMO ، وهي ( طريق العودةÊ RÊÇA VEGER)، والمكتوبة حديثاً، كما يقول تاريخها في الأسفل، مثلما هي منشورة حديثاً في موقع ( ولاتى مه). ولكنه النموذج القلق، والذي يعيش إرثه الذاتي، في المحاورة الذاتية، وحتى بالالتفاف على الحدث الشعري المروي بأكثر من طريقة، ليكون الموضوع المعنون رهينة شروح، هي شروخ الصنعة الأدبية في بناء القصيدة، والتعبير الأمثل عن الذات، التي تسرد لذاتها حكايات منغصاتها كثيراً. ثمة مهارة لدى غمكين في افتناص الموضوع، في إدراك البث الشعري، إلا أنه، وكما يبدو لي، يعرَّف بنفسه شاعراً، ويتصرف ناثراً، أكثر مما هو مقتضى شعراً:
Min nih naskir
Ku li giravek biyanî me
Û ji destpêkê de
Min bûsle şaş kir …
Delîve ya çendî salan
Bi na bûnekê
Te wêran kir …
Li hatina xwe poşman bûm
Û rêça vegerê
Min wenda kir ….
في المقبوس المذكور، يشهر في غربة ذات، وأي مكان ربما يستحيل غربة، يكتشف ضياعاً، يجهد نفسه كثيراً في الوصف والشرح، وأظن ذلك، ليس من شيم المنطوق الشعري، ومتطلبات الموسيقى التي تشترط حضوراً، عبر فتنة الإيجاز، وإيماءات الموجَز، وكثافة المتضمَّن فيه: الآن اكتشفت
على أنني في جزيرة غريبة
ومنذ البداية
أخطأت في البوصلة
فرصة سنوات عديدة
بـ"لا" واحدة
عَدَمتها
ندمت على مجيئي
وطريق العودة
أضعتها
ما يُلاحَظ في هذا المقبوس، وقد ترجمته للتوضيح فقط، هو وجود علة سبئية في المشهد التوصيفي والشرحي، وأعني بذلك، تفكك الجسد الشعري، من خلال علة داخلة، وما يؤدي ذلك إلى هجران المشهد بالذات:
فطالما أن الشاعر اكتشف أنه في جزيرة غريبة، فإن هذا يعني، وببساطة، أن ما أورده لاحقاً، في أكثر من جملة، عبء النص على النص، فهو في جزيرة غريبة، لأنه أخطأ في البوصلة، وهو بالتالي يضيَع طريق العودة ، وهذا هلى حساب عمق المعنى، أي زخم الموسيقى.
وربما في المنحى ذاته، يسعى الشاعر عزيز غمجفين Ezîz Xemcivîn، في قصيدة تحتفي يروح الشهيد الكردي تحديداً، ومن خلال مخاطبة شهيدة كردية، تكون هي بؤرة الرهان الشعري كذلك، ومقتضى وجوب الموسيقى،وهي ( الغزالة الشهيدة Xezala Pakrewan )، وهي منشورة حديثاً، من جهتها في موقع ( روزا آفا)، نعم، ثمة رؤيا مناقبية، رؤية مأثور تاريخي، رثائي، تعظيمي لدم الشهيد، ولكن التحرك داخل فخ الشعور، لا يرصد البعيد المطل على الجهات كافة، لا يستشرف الخفاء: تيمة الشعر، بغيته، حيث التكرار ، ومن ثم الوصف الملحوظ والمقروء كثيراً تداولاً، يعيق الشاعر في تأكيد حاضر الشعر، وحضور الموسقى كصوت يرفع من صمت الكلمات، ويهبها خفة الطيران في المدى الوجداني:
Ho Xezalê..!
rewanên we doza hev dikirin,
Gule û fîşekên kînok
li hember vîna we tiştek nedikirin..!!
her dilopek xwîn
li xaka welat mûmek vêxist..
nêrgizên evînê li ser gorên we geş in..
hêsirên sêwiyan,
barîna berxikên mîjo,
û nalîna dilan ji her hêlê de
bûne tekoşîn…
Her çipikek xwîna paqij û zelal
bûye buharek..
Û her rewanekî pîroz
ji azadiyê re bûye darek…
ثمة جمالية، لها ظرافتها في البداية، ولاحقاً، ولكن ملامسة حد الانطلاق، يظهر أنها تفوّر الشاعر من الداخل، ليهبط بجناحي الشاعر فيه، إلى ضيق أفق المعنى، ويتقيد بالمباشر:
فالحديث عن الدم مطوَّلاً، والبعد الإشهاري للعنف فيه، بات تحصيل تحصيل، إلا إذا أراد الشاعر ما ليس بشعر، أن يحرك الأيادي دون القلوب الحقيقية، دون توتير الرؤية البعيدة المدى، وما يلي الدم مطوَّلاً، بدوره هوتحصيل حاصل ، بسبب المعاودة، وتقليد التقليد المقلّد بدوره، والمشهد الكارئي هو هكذا، إضافة إلى التكرار القائم، كما يقول المقطع الأخير، عدا عن كيفية تصور الآخر: العدو، وهو متمثَّل في ( الرصاص الحاقد)، وكان يكتفى إما بـ gule، أوfîşek، لأن الموضوع ليس الترادف، أو الإكثار لتأكيد اعتبار ما، وربط الرصاص، مثلاً، كما قلت ، بالحقد، لا يعبّر عن نباهة شاعر، وإنما هوانغمار بالعاطفة التالفة للشعر، لأن العدو، عدو، فلا داعي لوصفه، هو، أو ما يعتمده بما هو سلبي قيمياً، إلا إذا أراد الشاعر مجدداً، استيلاد رصاصة موازية، وهذا طعن في الشعر.
لا أتحدث عن مشاعر الشاعر، أو أمارس تسفيهاً ما، لها، بقدر ما أحاول تلمس فضاء الشعر في كلماته، تحري أثر الموسيقى التي تؤكدها طراوة الألفاظ بتراكيبها، وتعارضاتها الوامضة.
إن أكثر ما يتهدد القصيدة، وينذر الشعربما هوكارثي، هو المعتبَر داخلاً في نطاق ( بطولات وصفية)، أعني الانجرار وراء وهم التصور، على أن القول كلما تم التوسع فيه، صار المعنى أوسع نطاق رؤية، وصار في وسع الموسيقى الانطلاق عالياً، والأكثر إيلاماً لي، عندما أجدني إزاء خميرة شعرية، وقد وضعت داخل كمية كبيرة من العجين، كما هي العلاقة بين الموضوع المفتَتح بإتقان، وتتالي الومضات، منذ البداية، ثم تجلي التعثر.
وأظن مسعود خلف، مسكوناً بهاجس الشعر، ولكنه هاجس محيّر، حين يتملك عليه وعيه للألفاظ ودلالاتها، حين يستعذب اٍهاب في القول، ويخرج الظاهر، أكثر مما هو ظاهر، أي يستعجل النهار، ظناً منه، أنه يمكنه رؤية السماء بصورة أكثر.
في قصيدته ( قرية الغبار ٍ Gondê tozê) والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، نحن إزاء مشهد غباري، كما تفصح الكلمة عن مداها الأرضي، المبلبل بأهليه، ومحنة الكينونة كردياً بالتأكيد.
حيث يتوجه الشاعر مخاطباً، إلى من يعنيه أمره، من يهتم به، وهو يوغل في الوصف، إبرازاً للشعر الذي كلما خطى الشاعر إلى الأمام، تراجع الشعر شعرياً. تُرى هل يحتاج الشاعر، للكثير من المفردات ليعلم القارىء، الآخرين، أن ثمة فاجعة، كما هو وارد آنفاً؟: النعاج التي تأخرت ولادتها- كن غرباء -عن الكلمات- الآمال- عن المحبة....- عن التراب-... لإبراز المأساة.. وسواها من الكلمات الأخرى، تترادف، لتسويق الانفعالي، وفي الوقت ذاته، لإبقاء الشعري أقل مما هو معرَّف به، حيث خفوت صوت الموسيقى من الداخل.
وثمة ما يمكن التنويه إليه، باعتباره منزوع الدقة:
عندما يقول: كانوا يتحسرون على أول العام ( السنة قبل الفائتة)، وهو يستخدم (sala pêrar)، والصحيح الاكتفاء (pêrar)، فهذه تؤدي المقصود بـ( أول العام)، كما نقول (pér,pitîpér : أول أمس، قبل ثلاثة أيام )....الخ، وثمة ما يخص العلاقة بين تمثيل المفردة لما هو جمعي، إذ لا يوجد المبرر الذي يدفع بالشاعر، إلى أن يتصرف، بإضافة ( n(، أو حذفها، بصدد الدال على الجمع، لأنه يمارس إجراء مزاجياً، كما في gotina…- hêviya- darê hinara....إذ لا بد من إضافة علامة الجمع، كما تصرف في مفردات أخرى مذكورة :
Ji şovekî sor…. Sor
Ava lehiya salan diherikî
Gundiyan kirasê xwe diqetandin
Kevokên çengokirî, baskokirî.
Xweziyên xwe bi sala pêrar tanîn
Hîna tu jî ji dayik nebûye
Di sala bûna te de…
Pezê gundiyan virinî zan
Ji gotina…
Ji hêviya..
Ji hezkirinê… ji axê em biyanî bûn
Li ber dîwaran..
Pîrên me dam dikirin
Û bayê payizê pifî hişê wan dikir
Bêhemda xwe dikenîn
Bêhemda xwe digirîn
Û tenê li ber cadan … nava kolanan
Silavên reşikên pîç dijmartin
"Selam û aleykum…. Aleykum el selam"
Kesî nedigot çima darê tiwa bi tenê ne
Kesî nedigot çima darê hinara beravêtîne
وبوسعي أن أتجاوب مع الحدث، ومغ الموضوع الذي يتناول حدثاً كارثياً كهذا، ولكنني، ومن موقف المتفاعل مع الشعري، والتحليق بروح الموسيقى، أجدني مستثقلاً تهويلاً، هو موقف الشاعر الناسج للحدث، ليكون تهويلاً لصق تهويل آخر، وليكون حِداد شعر، وصمت موسيقى.
إن الشاعر أرشف أوسكان Arşev Oskan، لا يشاطر مجايله الشعري فيما اعتمده، من طريقة التذكير بحدث فجائعي، وكيفية أرشفة الحدث، وإنما، تطرَّق إلى جانب آخر، ينظّر شعراً، وبطريقة ما، لما هو معاش إيلاماً، وهو يسهب في تجسبد المعاناة، حيث الوصف لا يخفي خفته، ولكنها الخفة التي تؤخر حضور ذائقة الشعر، مثلما تعيق فعل الموسيقى في التحليق بصوتها، وذلك في قصيدة له منشورة مكتوبة حديثاً، ومنشورة حديثاً في موقع ( روزافا)، وهي تحت عنوان ( أنا ماض ٍ : Ez diçim )، إن إظهار حالات التلوع في ذات الشاعر، وهو في وطن، أو ما يفترض فيه، أنه يمثل الوطن، وما في امتداده تشخيصاً، يظل عملاً وجدانياً حصيفاً، لا يقلَّل من أهميته قيمياً، ولكنه الشعر وحده، والقدرة على مكاشفة الحراك الشعري، وعمل الموسيقى في مكاشفة بلاغة المتخيَّل، من السمات الكبرى، للإمضاء على تثبيت كينونة القصيدة: الشعر، آرشف يُمضي على الوصفي كثيراً، رغم نسبه الحداثي، ولكن السرد العلائقي الوصفي، واستحضار كم ملحوظ من المفردات الزائدة، في تعبيد طريق المعاناة، ليس بسياسة فالحة في تعزيز عنفوان الشعر من الداخل، كما هو المتردد، أو المثبَت في هذا المقبوس:
Li êşên ku bi salan hatibûn meyandin,
Ez diçim..
Ji zû ve, min dil hebû, li te guhdar bikim û li xwe bigerim.
Ji zû ve, bi binfeş û nêrgizên kenok re nekenîme
Wê bi çûna min re, ewrên buharê xwe giran bikin
Bi awazên te re, wê lêvên xaka tî, di bin wan xunavan de şil bibin.
Wê welat bibe demsaleke buharî û xwe bi me şêrîntir bike.
Wê keskesor bi awazên te re, mîna du birûyan bêne vegirtin.
Her tişt li bendî awazên te bûn, li bendî hatina min bûn.
Ez diçim û nema vedigerim!.
إن مكاشفة اقتصاد المعنى، المعنى الذي يحرّك ما يمكن الشعور به، بنوع من الخشية والخشوع معاً، سليل المعاناة، وليس من شاعر، كالذين مروا معنا، أو أتينا على ذكرهم، إلا ويكون لهذه المعاناة الاستثنائية أثر فالح، أو معمَّق في نفوسهم، والتنوع في التعبير، يظل رهان الشعر، مثلما هو رهان الموسيقى في أن تجلو للعيان الحسي : الأذني.
ولعل مجموعة الردود التي تستثيرها القصيدة، أو كتابة الشعر بالذات، تتوقف على مجموعة عوامل، تتناوب عنصر الشعر: أي نسبة الحضور الشعري في المكتوب شعراً، أو المسموع باعتباره شعراً، من خلال الموضوع، وكيفية طرقه، أو استعراض مكوناته بطريقة تتناسب والفسحة الممنوحة للشعر، وميكانيزم العمل المتعلق بالمفردات المعتمدة، ومناخ الحالة النفسية، وكيفية إقامة العلاقات بين مفردة وأخرى، ومدى جاذبية المعنى المتحصَّل فيها. أقول هذا ، وأنا أشير في هذا السياق إلى فصيدة فدوى كيلاني ( نصوص الغربة)، وبالعربية، وهي منشورة حديثاً جداً، في موقع ( ولاتى مه)، إنها نصوص غربة، وربما تكون نصوصاً تكتَب في مكان آخر، ولكنها تتعنون هكذا، كما هو المقدَّر لها من قبل الشاعرة، حيث يمكن التوقف هنيهة عند مقبوس مأخوذ من المقطع الثاني من قصيدتها، وهو يأتي بداية :
ويبقى الرماد
كما لا يقول
سفيرا
يتطاير .......هكذا
في مدائن قلبي
مشتعلا
اقمارا
على دروب الله
منذ ان نساها
ذات مصادفة
ليترك تنور امي
يذرف تفاحا في قصيدتي
قرب ارغفة الحلم النهري
وابقى بين يدي اساي
خلف الصراط المرير
منهكة البوح
الهث صوب ظلال المهابة
رحم الامنية في شهيقها الطيني
فاكهةالافول
اغدو
وانا اقدم قرابيني
ننسج حمما
نهديها
عرائس مطرية
باذخة انا في صمتي
ثمة تراكيب ، لا يمكن التجاوب معها بسهولة، دون اكتناه نوعية العلاقات بين الصور وتداعياتها.
سيكون ثمة ربط بين الرماد واستحالته سفيراً متطايراً، اشتعالاً، والقلب مدائن، وفي الأثر سيكون تنور الأم( أو من تتحدث الشاعر باسمها)، في هيئة البكَّاء، لكنه التفاح المتحصل في قصيدتها، وسرانية العلاقة بين التنور بأكثر من معنى، كما كان الرماد المتحوَّل، وصلته بالتنور فيما بعد، والمكان المدائني، ومن ثم التفاح وسر خطيئة ما، لذة محظورة، دلالية، والأرغفة وارتباطها بالتنور، والحلم طي النهر، في جريانه تاريخاً، وسيكون الإنهاك، من قبل الساردة، والتحويل الرمزي في مفهوم ( الصراط)، حيث المعاناة، وربما الإخفاق في الوصل، وتكوين ما، وبحث عن المخرج من دوامة علاقة متوترة... الخ. إنه ضغط على الكلمات، وضغط مضاعف على القارىء في تلمس الممرات بين الصور وكيفية تلاقيها ، كيفية سبك قيمة جمالية، موسيقى تتشكل، على أثر إدراك خلفية العلاقات القائمة، وما في ذلك من عبء المتابعة، من صعوبة مكاشفة الإيقاع، بسبب تنوع المرادفات عن بعد، وهي متقاربة في أداء مهمة مشتركة ( الرماد- التنور- الرغيف- الطين..الخ)، إنه غموض متعِب في بعض جلي منه، وإن كان متضمناً كشفاً برؤيا شاعرة، وإن كنت أبصر في الكتابة هنا، تتالي ألفاظ، أكثر من تآلف معنى موحد، وفي كل ذلك تكمن تجربة ذاتية، تنفتح على عالم متخيَّل، مختلَف عليه قراءة، وبالتالي اختلاف ترددات موسيقية، بحسب مدى استبصار العلاقات القائمة بين الكلمات : عائلة المقبوس الشعري هنا.
في قصيدة ريحان سرحان Reyhan Sarhan، والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، ذات الصلة بالخوف، ولكنها بشفافيتها تتجاوز مفهوم الخوف، لتحيله موضوع رؤيا شعرية، إنه ذات الخوف( الخوف : Tirs)، الذي يبدد ما بين القلوب ، ويمنع من الشعور بما هو مؤثر، يكون ثمة صراع بين حضور قائمة الألفاظ، والمعاني التي يمكن لها أن تتشكل عبر إيحاءاتها:
Evînên me jî dibin qurbana şermokiyên me
Em ditirsin ji hev re bînin ziman...
Gotina di bin ziman de
Nizanim ji kê û ji bo çi
Em ditirsin!?
Gelo ma em ji nav û hêza
Evînê ditirsin?
Em her dû jî tirsonek in!...
Tirsonekê evînê ne
إن هذا ينطبق على المقبوس من قصيدة للشاعر فتح الله حسيني ، وهي ( أضع يدي على القلب الرقيق وأضحك: Destê xwe datînim ser dilê naz û dikenim)،
وقد نشرت حديثاً في موقع ( روزآفا)، وهي تتبدى أكثر إشراقة ذات شعرية، من الداخل، عبر لعبة المفارقات، لعبة الجميع بين الكلمات، والرهان على الأبقى، فتكون الموسيقى متفعلة أكثر بدورها
Wiha ye
Jiyan ji kevirên jiyanê
Ditirs e
Û giyan ji dammar ên jiyanê
Dipirs e
Li ber wî kevir î
Kes nizan e çidib e,
Ji pêvî kevir
وحده الحجر القادر على النطق بشهادة الأبقى، الحجر الذي يحفظ الأثر، مثلما الحجر الذي يقاوم فعل الزمن فيه> وما الرهان على الحجر، إلا استفتاء الذات الشاعرة، بجعل الحجر مفوّضه في تدوين الشعري، في تمثيل الشاعر ذاته، وهو يمضي على الحجر بالذات، ومعه موسيقاه المؤكدة. ولعلي عندما أؤكد جوانب إيقاعية معينة، ومن أخلال أمثلة، من هذا النوع، فللتنويه، إلى أن الشعر لا يقال في كليته، بقدر ما يشار إليه، بقدر ما يبقي الشعر هذا ، حتى وهو جلي المعنى، كما يقول ظاهر الكلمات، الكثير من خصاله الجمالية داخلاً، وتكون موسيقاه مسموعة في صمت، في ثمالة معناه، وهذا يتوقف على مدى تحرر الشاعر من سلطة الروتين اليومي، بقدر ما يتواصل- بالمقابل- مع سلطته الذاتية، مع هاجس اليومي، مع مستجداته، ويمارس ترجمة تجلو ذاتيته الخاصة، بحيث يقف القارىء أمام مفهومه العصي على التعري، كما هو المنشود مباشرة. وكما في مشهد لافت بتراكيب صوره داخل مشهد شعري، ليس المتخيل المباشر، كان قابلته الأدبية، وإنما القدرة في وعي العلاقات القائمة بين الممكن الواقعي، والممكن الشعري، من ناحية المباغتة في التركيب، وهو يخص الشاعر حسين حبش المعروف في كتابته بالعربية، وها هو يقيم صلة وصله في الجانب الأوسع فيه، باعتماد لغته الكردية، في قصيدته ذات الغرابة في العنوان ( ثلاث حلمات : sê memik)، والمنشورة حديثاً في موقع ( روزآفا)، فالبنية التركيبية تقومعلى طرح المفارقات، وإيلائها قيمة جمالية، تتبدى تدريجياً، من خلال العلاقة الخفية:
Jinek bi sê memika ye
Mirovekî serê xwe
li ser Sînga wê
Ji bîrkir bû.
ثمة وله بالأنثى، لكنه وله أهم، وأوسع بالشعر، وبقدر ما تشير الأنثى إلى هذا الوله في علاقة تتجاوز نطاق اللغة، بقدر ما يحيل الشعر الوجودَ ذاته، وفي العمق، بكائنه إليه، مموسقاً. الشاعر في الحالة هذه، لا يسأل ما إذا كان الآخر، يريد استفساراً أم لا، إنه يحاول العيش في مربع اللاتناهي، مسلّماً روحه ليقين شعر، وحده يمكّنه من تقرير مصيره شاعراً يستمر، أو لا يستحق لا الاسم المرغوب، ولا الصفة التي يطلقها على كتابته كونها شعراً، كما هو المقروء الخفي أكثر من المقروء لغة، وأعني بذلك، الشعور بأن ثمة الكثير الكثير، طي القليل القليل. وفي وضع كهذا، قد ينطلق أحدهم، تحت تأثير هاجس ذاتي، وباعتباره شاعراً، ولأنه لا يقيم روابطه المحمية بلغة الشعر، في أهبة الكلمات التي تتطلب المزيد من التأني، المزيد من الصمت الروحي لتلمس صوت الموسيقى، بلاغة المردود القيمي – الجمالي، يبرز اليومي الظاهري حائلاً دون صعود وجه الشعر بالطريقة التي يتمناها، أي يتقدم شاعراً باستمرار. أقول هذا وأنا أِشير إلى قصيدة لا تبدو حديثة في تاريخ كتابتها، وإن ظهرت حديثة نشراً، وفي موقع ( ولاتى مه)، وهي ( علمت أنك ستأتين: Min zanî bû tê bê)،للشاعر Bihrî Bênij ، وهو يشدد على بُعد كفاحي في الحياة، وكان يجب وضع العنوان هكذا( Min zanîbû ku tê bê)، كون الحدث مستقبلياً، وهذا يعني الخروج من لغة اليومي، ولكنه، وكونه ينخرط في تيار المشاعر، وربما يتصور المحيطين به، وهم يأملون منه المزيد من الوضوح، يمارس التفسير والوصف كثيراً، فطالما يعرف الشاعر أن مناضله سيكسر باب الزنزانة، لا داعي ليشير إلى تخلصه من عائق السور/ الجدار، والقيد، رغم أن مفردة ( Piçirînî) المستخدمة في الشطر الثاني من المقبوس، غير دقيقة إطلاقاً، فهي تعني ببساطة( ستمزق)، والتمزيق لا يطال السور أو الجدار أو القيد، إنما يخص التجاوز أو التحطيم، والتمزيق يتركز على القماش ومعادله. والكثير من التواليات تبعات اللحظة الأولى، وفي مضمار شعورها الذي يحيّب أمل الشاعر في بروز القصيدة: الشعر، حضور المعنى الشعري، والأكثر من ذلك، حين يكون الجانب الكفاحي هذا متركزاً على المحبوب بالذات، وما تعرَّض له من أذى واستبداد أهليين، أي أن علاقة حبية، هي التي سبب كل هذا التصعيد الاستنفاري، وهو تصعيد أفقدَ الشعر شعريته، لأن انتشار المترادفقات، هو العلامة الفارقة لوأد روح الشعر حياً.
Mi zanîbû tê derê zindana xwe bişkînê..
Mi zanîbû tê bend û qeydan biçirînî tê bê..
Di şikefteke bin erdre mabê tê bê
Min zanî bû berê te li mine …
Çimkî bê xatir xwestin ti çûyî..
Çimkî ti birin, ti dizîn ji hembêza min..
Te firotin dûriyê..
Ti veşartin ji min ti dane biyanê..
ويمكن أن أشير إلى أمثلة أخرى، ينطلق أصحابها، من تصور تقليدي، بات فولكلورياً، كما يبدو، في المشهد الشعري الكردي المتصدع اًي باعتماد القافية، كما لو أن الموسيقى حاضرة بحضورها، وأنا أورد مقبوساً لعلي كولو Elî Kolo، باسم ( ثمة يوم : Heye roj)، وهو منشورحديثاً، في موقع ( ولاتي مه)، حيث نتلمس الكثير من الخلط بين الصور، وفقدان الدقة في الكتابة، والانجرار وراء العاطفة التي لا تقيم وزناً لوزن الشعر نفسه، ولا لروح الشعر في كثافتها، وما تكونه الموسيقى، كما لو أن المزيد من الأوصاف، يحصّل المزيد من الألطاف في الشعر. إن حشد كلمات تترى في نطاق موضوع معين ( تلوعي هنا)، لا يشفع للشاعر قبل سواه، في أن يؤكد شاعريته، أن يبرزموسيقية المؤتى به، ووسمه شعرياً، وكما تقول بنية المقبوس هذه:
Silav li te kulĕ min *** Di vĕ reşaya bĕ bil
Şewqa rojĕ nemaye *** Tarî bũye weke kil
ev îna min barkirî *** hĕviyĕ min bũne kul
çîmenĕ mintevde man *** bĕ beybũn ũ bĕ sorgul
lĕ dizanim heye roj *** wĕ vegere ew şemal
çem ũ cobarũ xunav *** wĕ geş bibe
pir zelal reşî ji vir barbike *** nema dimînim bi kul
وينطبق القول السالف على نموذج آخر، حيث المطلع، رغم كلاسيته، يشهد بالمتابعة، ولكن المتابعة، تبدو ممانِعة، كون التالي، ملحَقاً بالسابق، وصفاً على وصف، أو تكراراً له بصورة ما، كما في مقبوس لسيمكو Simko، منشور حديثاً في موقع ( ولاتى مه)، وتحت عنوان كلاسي بدوره ( حديقة الفاتنات Baxê dîlbera l)، كما لو أن المزيد من التكرارات، يضفي على المشهد المتصوَّر قيمة جمالية أكثر. إن التذكير بمفردة ( الحديقة)، يكفي لاستحضار كل ما جاء لاحقاً عن جمال الحديقة: شجراً وثمراً وطيراً وبهاء منظر.
Evjî baxê dîlberaye bilbilo têde bixwîne
Rengê dara tê de şîne pirpirî her lê civîne
*********
mûm û findê perî cana li hawîr dorê ronîne
wê çi çêbe gelo carek li bexçê min jî bi xwîn
ما يتجاوز المثال الواحد:
بصدد ما أثرته سابقاً، يمكن ممارسة مقاربة أكثر، من خلال أكثر من مثال، لشاعر واحد، وكيفية يكون انبناء العالم لديه، عبر مقارنة ضمنية، بين مجموعة من الفصائد.
هنا، أتوقف عند ثلاثة نماذج متفاوتة قيمةً شعرية، ثمة نموذجان بالعربية، هما ديوان ( قوافل المطر) لأفين شكاكي Shkakî Evîn، والمنشور منذ سنة ، ونيف، والآخر، صادر حديثاً، وهو ديوان ( ابنة الجن) لشهناز شيخه، أما الديوان الثالث ، فهو بالكردية، فهو منشور بدوره حديثاً، وهو ( مهرجان الدم : Festîvala xwînê) لكرديار دريعي Kurdyar Dirê,î.
يمكن للقارىء المتتبع لحركية العلاقة بين بنية الكلمات وكيفية إقامة شعائرها الشعرية، وتميزها عن سواها، في المجالات الأخرى، وأي موسيقى تتآلف في أثرها، يمكنه أن يتلمس الكثير من حدود صدى النص الشعري، والأفق الذي تتحرك صوبه الموسيقى.
تبدو الشاعرEvîn، في متضمناتها الشعرية، شديدة التفاوت بين نص وآخر، أو قصيدة وآخرى، وهي مختلفة طولاً وقصراً، حتى ليذهب الظن بالقارىء بعيداً، إلى أن حقيقة الشاعرة، هي فيما أورته بداية، بوصفه أقرب إليها، ومنذ لحظة العنوان، وأكثر تمثيلاً ذاتياً لها، وأعني بالتفاوت، ليس الجانب الشكلي، وإنما حدود الرؤيا الشعرية، هذه التي تباغت القارىء، ومنذ أول قصيدة، بما لا يكون شعراً، وهي تعتمد القافية، كما لو أنها تعرّف بذاتها عالمة بالوزن بالمقابل، وهو أثر، مؤطَّر ليس بسوء فهم متوارث فقط، وإنما بسوء إدارة ما للمتوارث، ولخاصية الوزن ، ومدى ارتباطه بالموسيقى. في قصيدة ( عيناك)، وهي الأولى كما ذكرت تقول :
عيناك مطر غامض
العيش فيها ولادة
الوقوف أمامها
تراتيل حب وعبادة
اعذرني
إن نصبت أمامهما خياماً
لابتساماتي
لأنها منذ زمن في تشرد،
وضياع وإبادة. ص 9.
هنا يكمن وبال الأثر الشعري، إذ ما عدا أول جملتين، لا يبدو الاستقرار ميسماً للقصيدة، عدا عن الخطأ في التركيب اللغوي ( فيها: فيهما-أمامها: أمامهما)، والتكرار، فالتذكير بالولادة، يمكن أن يستثير الكثير من الصور في متخيَّل القارىء، ولكن تماهي الشاعرة مع ذاتها، مع مشاعرها المندلقة، أفقدها توازن المعنى، أو تجلي الموسيقى المنشودة، ولو نسبياً، والقافية بدورها، أضفت على النص بعداً خدمياً سلبياً، بلبل العلاقة الشعرية أكثر، كما لو أن نظماً خالصاً يتبدى هنا.
وفي المشهد الأخير، لماذا إيراد ( التشرد والضياع والإبادة) معاً، حيث مفردة( التشرد) تفي بالمعنى كثيراً، عدا عن أن مفردة ( إبادة) إقحامية اجتثاثية، وتحت إلحاح وزن متوهَّم هنا.
وهذا ما يمكن تلمسه في قصيدة ( قوافل المطر)، أي القصيدة التي تعنون الديوان بها، وخراب المعنى أقل، ولكن الهوس بالقوافي، يبرز مطيحاً بكل جمالية ممكنة:
خيم الصمت بيننا زمناً طويلاً
دون أن ينكسر
قال دون أن يتكلم:
سامحيني إن عبر طيفي مساءاتك
دون جواز سفر،
واستوطن الحزن في قصائدك
وتبختر.... الخ . ص 13.
ثمة اعتماد لقافية، في غير محلها، لعدم لزومها، لعدم وجود وزن ( بحر ما)، وكونها غير مؤدية للمطلوب ذاته، بالعكس، جاءت تثقل على المعنى.
تُرى ماذا يحدث لو جاءت البداية هكذا : الصمت خيم بيننا طويلاً طويلا؟
لا لزوم لذكر الزمن، فهو محسوب، ولا لزوم لذكر ( دون أن ينكسر)، لأن الشاعر لا تشرح ما هي فيه.
وماذا يحدث لو أنها كتبت ( قال صمته) بدلاً من ( قال دون أن يتكلم)؟
وما دور حرف جر ( في) السياق المذكور، سوى أنه يضعف ما هو إيحائي في الجملة؟
ثمة مفارقات الصور، وتناغمها، لا يُعلَم لماذا الشاعرة، لم تكتشف الصدع الكبير، بين ما أوردته سابقاً، وما هو وارد في قصائد أخرى، تشهد على شفافية ملموسة : إيقاعاً وتخيل موسيقى، كما في ( حين أراك):
لماذا حين أراكَ
تنثر على جرحي الحنين ؟
تستعير من شفاء الفجر وردة.
ونصبح عاشقين
في ضيافة المطر . ص 33.
إن هذا التفاوت الكبير، والملحوظ، بين قصيدة وأخرى، يثير الظنون، بما ليس في مصلحة الشاعرة، ولا أعنيها وحدها هنا، بل أغلبية الشعراء الكرد، من خلال قراءات لنصوص أخرى، وكيفية الكتابة في ظلها، وأخص بالتذكير، من يعرَفون عبر رصيد أنترنيتي بداية.
شهناز شيخة تبدو أكثر تناغماً مع ذاتها، وسيطرة على كلماتها التي تكون فصيدتها، وإن تجلى لجوءها إلى الغموض، مقلقاً من جهة الالتباس في المعنى، أي في المبتغى من اللعبة اللغوية، وهذا له تأثيره على البعد الإيقاعي، على التردد الموسيقي في المحصّلة.
كما في أول قصيدة ( شهرزاد)، وكيفية الحديث باسمه، من الداخل:
صرخة تتلاشى بين البحر والشفق
دموع الشمس يجلدها الغروب
شراب النار في شفة الزمن
أنا ... نورس الشرق
الراقص فوق زوبعة العذاب
زبد يهيم فوق رهبة المحيط
فوق الوجود.... الخ . ص 11.
ثمة بحث عن صور غير اعتيادية، وإن كان في التوليف، ما يستجوب المساءلة، عن مدى التصويب في التركيب، مدى اختراق المألوف، لتكون الموسيقى، في حدود المتخيَّل قيمة.
وربما ظهرت شهناز، مستجيبة لنداء روحها اليومي، أحياناً أكثر من روحها، في الجانب القصي مما هو يومي، أي : ديمومة الشعر، في قصيدة ( موت)، تقول:
هكذا... دون مقدمة
تماماً كزوبعة في الفراغ
تخترق عمق وجودي
تمضي عبر بوابة قلبي
جرحاً...
يغتال أحلامي البرئية. ص 21.
أرى أن ثمة إيقاعاً، يتلون، من خلال تردد الكلمات، بين اليومي والميتايومي: المباشر وخلافه، ويمكن توقع رنة الموسيقى عبر ممارسة شعرية من هذا النوع، ولكن، لو تم تشذيب للوارد قليلاً، لمارس القول فتنته الشعرية أكثر:
... دون مقدمة
كزوبعة في الفراغ
..........
يغتال أحلامي ..
ربما، تقديراً مني، على أن القارىء، متروك له مجال أوسع، للمضي مع ما لم تسمّه القصيدة بعد، أو أكثر، ليكون له دوره في تلوين الخفي، إثر الكلمات المنثورة على الورق هكذا .
إن مفردة ( هكذا) ذات القيمة النسخية، تطوق المتخيَّل كثيراً، وتبقي الطريق سالكاً أمام الشاعر وحده، أو الشاعر هنا، ليكون القارىء تابعاً، وتكون طاقة المتخيل أجدى، في مسارات عدة.
ففي ( عصافير الشتاء)، ثمة رونق في الكلمات، أعني تجويد في الصتعة، وحس رؤيوي بالآخر:
أحبك ..
... هكذا تقول أصابعنا
عند كل لقاء
أحبك ..
هكذا ..
يقول ..
البريق المتفجر
.. في عيوننا. ص 76.
تلعب النقاط المتتالية دورها، في التأني، أو في خلق انطباعات، كما لو أن فراغاً ما، يفصل بين بروز حالة، بوتيرة ما، وأخرى، بوتيرة أخرى، وتصور الموسيقى، في منحى إيقاع الكلمات، يتجلى من خلال توزيع الكلمات والفراغات المعمولة، ولكن ، أليس وضع ( هكذا) جانباً، يضفي على انسيابية الكلمات حراكاً دلالياً أكثر شافية ؟ إن فضاء المعنى يتعمق أكثرهنا !
في ديوان كردياردريعي، بقدر ما يختلف الوضع، يكون مساوياً لما تقدم، لأن الاختلاف هو في اللغة، وما إذا كان اعتماد مفردة دون أخرى، يجري ، بوعي جلي، بمناخاتها الدلالية، أو الوظيفية، أم لا، رغم أن هذه الصفة، موجودة، في كل ممارسة لغوية، ولكنني أتحدث، عن الكردي، حين يقيم علاقة ثقافية، شعرية، مع لغته، وكيف يؤرخ للحظة ما من حياته، بجعل لغته لغة شعر، أو حين يتحدث بلغة أخرى، وهو الكردي، كما أسلفت، ويطعَم اللغة، بحضوره شاعراً شاعراً، وهو هنا، يوشح ديوانه بالدم، وأظنه عنواناً ينز عنفاً، والمهرجان مخدَّم باسمه.
ثمة معايشة لما هو شعري، ولكنها تتطلب المزيد من التجمهر داخل الذات، التقريب بين سلسلة النسب الخاصة بما هو شعري، باعتماد كلمات تتعاقب، دون تتعاقب من ذات الشعر.
في القصيدة الأولى ( أيا ليل Hey şev)، ثمة انزياح إيقاع، تلكؤ المعنى في الربط الدلالي:
Bê denge şev
Sitêr disincirîn
Perçeyên ewran li asoy
Hin sor … Hin tarî
Di bejna şevêde
Avjeniyê dikin. R:5
نعم، ثمة حركة، لها صداها الحسي في المقبوس السالف، ولكنها حركة لا يمكنها أن تخفي ما هو حسي مختل فيها بالذات، إذ كيف تكون الغيوم ملحوظة، تغطي السماء، وتكون النجوم مشعة مرئية؟ هذا خطأ لم يفكَّر فيه، وإنما كان هناك تلبس بالحالة، وعدم مراعاة لخاصية الصور ومنطقيتها واقعاً .
كرديار، لديه رغبة داخلية، في أن يكون شاعراً، وثمة حضور لنفس الشعر، خلل كتاباته، ميل إلى الإيقاع، أو ذائقة الشعر الذي تحدده صياغة مسترسلَة من الكلمات، وإن كان في العديد العديد، مما يصيغه أطياف شعراء آخرين، وإن لم يُسموا، أي أن ثمة نوعاً من التأثر الموضوعي، وحتى التركيبي بما قدمه آخرون قبله، وهو يجهد، في أن يكون المدوَّن أثره، موسيقاه المنبثة، كما في قصيدة ( ندم : Poşmanî) ، حيث يقول :
Ji min re digot:
Tu li kube
Tê li min vegere
Dilê yekemîn
Maça yekemîn
Kî dikare ji bîr bike …?!R:82
ويمكن الإشارة إلى قصيدة، تكون أكثر تذكيراً، بصدى أصوات آخرين، حيث حضور الآخر الشعري، وإن تمت محاولة تركيبها بطريقة ما ، مختلفة، لا يمكن تجاهله، وبالتالي، تتركز الموسيقا خلف الستارة، أعني، تأخذ حركتها، من حضور موسيقي آخر.
أشير هنا إلى قصيدة ( فكرة Ramanek):
Peyalek mey
Yarek rû li ken
Tembûrek zîz
Qutyek tûtinê
Hêlînek biçûk
Besî jiyanamine
Û hinek azadî
Xweş tir dibe . R:150.
القصيدة بكاملها، تستعيد معها، ما كتبه الشاعر الكردي كوران عبدالله Goran1904- 1962، وفي قصيدة يقول فيها :
كردي .. وكيس تبغ..
حفنة زبيب.. وبندقية..
ثم صخرة..
وليأت العالم..
كل العالم
( انظر : كَوران عبدالله شاعر كردستان الخالد، إعداد: محمد علي توفيق، ط 1990، ص95).
مع الفارق الجلي، حتى في الإيقاع المتخيَّل، ومنحى الإيقاع هذا، بسبب بنية القصيدة.
كوران، يقيم في قلب العالم، وكان هذا دأبه قبل نصف قرن تقريباً، يعيش تحدياً متعدد الجبهات، وكرديار، يقيم في الداخل( وهذا ليس مقارنة، وإنما إبراز علاقة مختلفة، وكيفية ترتيبها)، ليقدَّم قدح الشراب أولاً، ومن ثم فتاة بهية، وطنبور صداح، وعلبة تبغ، وعش صغير، يكفي حياتي. وقليل من الحرية، يكون أطيب.
العبارة الأخيرة شرح يفسد الإيقاع الذي يترجم حيوية الداخل، هذا الداخل الذي يظهر لعيان القارىء ما عليه القائل.
وكان يجب البدء بالداخل أولاً، إن أردنا منطق مكان : عش صغير، وما يتضمنه.
وثمة تفهم ضرورات المكان والزمان، وأعني مكانة ( علبة تبغ) في القصيدة، وصاحبها ثمل بالشراب، وداخل في حداثة المكان، إنها غفلة طاعنة في ذات القصيدة.
وبالوسع المضي أكثر، مستعيناً بأكثر من مثال، ولكن، وكما نوَّهت، ما أردته، هو أن الشعر ولكي يكون شعراً، أن تكون موسيقاه من صميمه الروحي، يتطلب وعياً مركزاً، ليكون الصوت المسترسل صوت شاعر، وحده الإيقاع يتكفل، بتجديد معناه في الزمن، إنه الإيقاع الذي ينبثق من كليانية الجسد اليقظ للشاعرسرمدياً، وإلا فلا نامت أعين الشعراء كافة !
أقول هذا، وأنا أترك باب المثار مفتوحاً على مصراعي النقد ونقد النقد طبعاً، وإمكانية العودة لاحقاً، إنما – ربما- في مكان آخر، ولكن الذي يمكنني قوله، ومن خلال ما تقدم، هو التشديد على مفارقات العلاقة بين مدى اهتمام الكرد بالشعر، والوضع التشرذمي لهم، بأكثر من معنى، مدى تولعهم بالشعر، أكثر من أي فن قولي، كتابي آخر، حتى وهم في أمكنة متباعدة، كما لو أنهم بذلك يؤكدون ويؤكدون انتماءهم للعالم، بالطريقة هذه، هم والذين يؤكدون تجاوبهم الشعوري مع ما يقولون أو يكتبون، على أنه الشعر الشعر، ومدى تفجعهم في وضعهم الشعري المختلف.
أقول هذا، وأنا أستعيد ما أثاره الباحث السعودي عبدالله الغذامي، في كتابه ( القصيدة والنص المضاد- منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1994)، وفي فصل ( جماليات الكذب)، مبيّناً كيف أن الكذب، وكما رأت العرب، كمصطلح، يعني الشيء ونقيضه( ص 115)، لهذا تم الربط بين الشيء الأكثر جمالاً، بقدر ما يكون الأكثر إيغالاً في الكذب، وعليه أختم قولي:
والكرد بدورهم يتصرفون هكذا، وأعني به شعراءهم، وأحدد أكثر مَن أشرت إليهم، ومن يرادفوعهم بصور مختلفة، ممَّن لم أسمّهم، ومن ينفعلون مع انفعالهم، ولكنهم يستسهلون أمر الكذب، وفي الشعر هنا، كثيراً كثيراً، ربما أكثر في نصفه الآخر، سواء فيما يعتبرونه إبداعهم الذاتي، أو بتأثير قراءات أخرى، دون الكشف عن ذلك، أو كونهم لا يصرّحون بكذبهم الشعري هذا، ومدى تناقضهم في هذا المضمار، وذلك أمر، له صلة بعمق الخبرة الحياتية، بحكمة البصيرة، بشجاعة الاعتراف بالواقع الذاتي، برحابة الرؤية الروحية لمأثورهم الجماعي والفردي، ولهذا، يظل الأجمل في انتظار أكثرهم .....!!!!
If you're trying hard to lose weight then you certainly need to start using this totally brand new custom keto meal plan.
ردحذفTo create this service, certified nutritionists, personal trainers, and professional cooks have joined together to develop keto meal plans that are productive, decent, cost-efficient, and fun.
From their first launch in 2019, hundreds of clients have already remodeled their figure and health with the benefits a smart keto meal plan can offer.
Speaking of benefits; clicking this link, you'll discover 8 scientifically-confirmed ones given by the keto meal plan.